خضر م. حسن

لم تعرف شعوب الشرق الكُبرى، العرب، الفرس، التُرك والكورد قبل قرنٍ ونيّف الكتابةَ بالحرف اللاتيني، بل كانت الأبجديات العربية، الفارسية، العثمانية والكوردية هي السائدة وجميعها تعتمد على حروفها المحليّة في التدوين، والتي تأثرت بدورها بالحرف القرآني.
لقد حافظ العرب، الفرس والكورد (في جنوب كوردستان وشرقها) على أبجدياتهم بالرغم من حكم الانكليز لعراق العرب وعراق العجم (الكورد) المجاورة لبلاد فارس لمدة اثنَي عشرَ عاماً ومحاولتهم فرض لغتهم وثقافتهم على شعوب المنطقة دون جدوى.
تأثر المثقفون التُرك بعد الحرب العالمية الأولى بالثقافة الغربية وأعلنوا الانقلاب على الأبجدية العثمانية، ليعلنوا رسميّاً عن استبدال الحرف العثماني بالحرف اللاتيني في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1928م. كان ذلك الانقلاب اللغوي ضروري من أجل تحويل تركيا من دولة دينية يحكمها السلاطين إلى دولة علمانية تنتمي إلى أوروبا والغرب وليس للشرق الأوسط. وبالفعل استطاعت تركيا أن تصبح حليفاً لا يمكن الاستغناء عنه مِن قِبَل الغرب، وذلك بعد انضمامها رسمياً لحلف الناتو سنة 1952 و وقوفها في وجه المد السوفيتيي القادم من البحر الأسود.
لقد كان لتلك “الثورة الثقافية” إلى جانب العديد من التغيرات الأخرى التي طالت البنية المجتمعية و الحياة الدينية في تركيا مايبررها وفق مذهب المنفعة، فلماذا لم يحافظ الكورد على أبجديتهم وحروفهم، خاصة وأنهم كانوا ولازالوا رافضين لاتفاقية لوزان يوليو/تموز 1923 التي خذلهم فيها الغرب بعد أن وعدهم في معاهدة سيفر أوغسطس/آب 1920 بالاعتراف بدولتهم القومية ثمّ تخلى عنهم، بل قدّمهم قرباناً لمصطفى كمال أتاتورك، طفل الغرب المدلل، مقابل التنازلات التي قدّمها الأخير للغرب، لماذا لم يحافظوا على خصوصيتهم الثقافية بالرغم من أن ثوراتهم القومية والدينية في وجه الاحتلال التركي لم تتوقف منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم؟
إنّ ضم غرب كورستان لمناطق الانتداب الفرسي في اتفاقية سايكس بيكو التي تم التصديق عليها في مايو/أيار 1916، وخروجها من مناطق سيطرة الاحتلال التركي، كان فرصة كبيرة للحفاظ على خصوصية اللغة الكوردية في هذا الجزء، الذي أصبح أقرب للثقافة العربية منه للتركية. إلّا أنّه للأسف، كانت استجابة المثقفين الكورد للتغيرات التي طالت تركيا سريعة، فسارعوا هم أيضاً في الانقلاب على الأبجدية الكوردية، إذ استبدلوا الحرف الكوردي بالحرف اللاتيني وكان ذلك لأول مرّة على يد الصحفي الكوردي الأمير جلادت بدرخان سنة 1932.
إذا كان لِما قام به الأتراك من ثورة على الحرف العثماني واستبداله بالحرف اللاتيني مايبرره، فهل هناك مايبرر للمثقفين الكورد انجرارهم خلف المثقفين التُرك؟ وإذا كانت الحُجَج التي استند اليها المثقون التُرك في أن الحرف اللاتيني يخدم اللغة التركية بشكل أفضل من الحرف العثماني، فهل الأمر كذلك بالنسبة للغة الكوردية التي تختلف تماماً عن التركية في حركاتها وسكناتها؟
إن التنازلات التي قدمها الضباط و المثقفون الترك للغرب كانت كبيرة و كثيرة، من ضمنها التخلي عن الحرف العثماني مقابل مساعدة الغرب لتركيا في النهوض من دولة متخلفة لم يَعد لها مكانة بين الدول إلى دولة لها وزن على الصعيد العالمي، الأمر الذي لا ينطبق على الكورد.

وإذا كان الانقلاب على الأبجدية العثمانية التي تشبه املائياً حروف القرآن الكريم شرطاً للتعريف بهوية الدولة التركية الحديثة المنفصلة عن الإسلام، فهل اعترف الغرب بالدولة الكوردية حتى يعترف بهويتها؟

إن الاعتراف سنة 1911 ببعض لغات شعوب الدولة العثمانية التي تستخدم الحرف اللاتيني، كاللغتين الأرناؤوطية والأذرية، دفع بمثقفي الطبقة الارستقراطية التركية، الذين تأثروا بالثقافة الفرنسية، للمطالبة باستبدال الحرف العثماني بالحرف اللاتيني كخطوة أولى لنقل الثقافة الغربية إلى بلادهم، فهل ساهم الأمير جلادت بدرخان وهو من الطبقة الارستقراطية الكوردية، هل ساهم في نقل الثقافة الغربية إلى “كوردستان”؟

الحرف اللاتيني خَدَم اللغة التركية و ساهم في تطورها و انتشارها، فهل ساهم كذلك في تطوير وانتشار اللغة الكوردية؟

الأمر ليس كذلك، فلازال الكورد في جنوب كوردستان و شرقها يكتبون بالحرف الكوردي، وبالرغم من أنهم لايشكلون أكثر من 30% من الشعب الكوردي إلا أنهم أكثر إنتاجاً و تفوقاً في جميع المجالات الأدبية من ال 70% من الكورد الذين يكتبون بالحرف اللاتيني، ولغتهم أكثر انتشاراً في تطبيقات التكنولوجيا.

منذ اتفاقية سايكس بيكو مايو/أيار 1916 التي فصلت غرب كوردستان عن شمالها وجنوبها حتى اليوم لم تتبلور ماهية كورد سوريا، بل كانوا على مدى أكثر من قرن تابعين لا مُتّبَعين، مَقودين لا قادة، لم يكونوا يوماً مستقلين وأصحاب قرار!

خضر م. حسن
05.04.2023
المانيا