د. حمزة عيسى
في زوايا الذاكرة النضالية، هناك محطات لا تُنسى، ملامح وجوه ، أسماء ورفاق سلكوا دروب التعب والشقاء، وشاركوا الزنزانات،والمنافي والساحات، والبيانات الأولى التي كُتبت بالحبر والأمل. كنّا كتلة واحدة من لهب وإصرار، اجتمعنا على الحلم الكردي المشترك، تحت ظلال اليسار الكردي، مرورًا بالاتحاد الشعبي، واستقرارًا في خيمة يكيتي، ذلك الحزب الذي لم يكن مجرد تنظيم، بل كان روحًا عائلية تُقاوم الانكسار في وجه السلطة، وتتشبث بحق تقرير المصير رغم القمع والملاحقة.
لكن، يا للأسى…
ما الذي تغيّر؟
ما الذي حوّل رفاق الأمس إلى خصوم لا يطيقون سماع أسماء بعضهم؟
كيف انهار الجسر الذي شيّدناه على مدى عقود من التضحيات؟
إنّ الجواب، وإن كان موجعًا، لكنه ضروري لقراءة الواقع بأدوات العقل لا فقط بحرقة القلب. لقد تحوّل بعض من رفاقنا إلى أدوات طيعة في أيدي الأجندات، خانعة تحت وطأة المال، أو ساعية لمجد شخصي لا يقوم على شرعية القاعدة، بل على وهم الزعامة في صحراء السياسة. لم تكن المصالح العامة هي الحَكَم في خطواتهم، بل المصالح الذاتية التي ارتدت لبوس “الشرعية”، فحوّلت التنظيم إلى مزارع صغيرة تُدار حسب رغبات المموّل أو القائد الفرد.
في الماضي، حين كنّا نُضرب في الشوارع ونُلاحق من فرع إلى آخر، كنّا نواسي بعضنا لا نفرّق، ونقتسم الرغيف والبيان، نخطط سويًا ونصبر على بعضنا رغم اختلافاتنا، لأننا نعلم أن الوطن المأمول يحتاج جهد الجميع. لكن حين غابت المرجعيات الأخلاقية، وتفكّكت البوصلة الوطنية، باتت بعض المكاتب السياسية أو التنسيقيات تتعامل مع القضية الكردية كأصل تجاري، لا كوجع شعب وحق مغتصب.
وهنا تكمن الكارثة السياسية التي تُفتت ما تبقى من جسد الحركة الكردية في سوريا: لا نختلف في البرامج أو الأيديولوجيا بقدر ما نتصارع على المقاعد، على “منصات التفاوض”، على التمويل، وعلى الممثل الشرعي. وهكذا تحوّل خطابنا من مواجهة “السلطة” إلى جلد بعضنا، ومن رفض التبعية إلى الوقوع في أحضانها.
إنّ هذا الانقسام ليس قَدَريًا، ولا طارئًا بلا علاج، لكنه مرآة لغياب آليات الديمقراطية داخل الأحزاب، وغياب المحاسبة التنظيمية، وفساد بعض القيادات التي رفضت التقاعد الطوعي لصالح الجيل الجديد.
ولذلك فإن الواجب التاريخي يُحتم علينا، نحن أبناء تلك المرحلة الذهبية من النضال، أن نرفع الصوت عاليًا: كفى!
كفى استهلاكًا لثقة الشارع!
كفى تشويهًا لصورة السياسي الكردي الأصيل الذي كان يومًا يتقن فن الإنصات والحوار والخروج المشترك من الأزمات!
نحتاج إلى مصالحة سياسية داخلية، ليست من باب “العفو” عن الخطايا، بل من باب المساءلة ثم التصحيح، وعقد مؤتمر وطني استثنائي يضم كل التيارات التي انشطرت من رحم يكيتي، تحت مظلة مشروع وحدوي كردي سوري لا يقبل المساومة، ولا يقبل المهادنة على حساب المبادئ.
لعلّ أصعب اللحظات في التاريخ هي حين يتحوّل الأخ إلى خصم، ورفيق الزنزانة إلى أداة للطعن في الظهر.
ولكن حتى في ذروة هذا الانهيار، يظل الأمل قائمًا بعودة العقلاء، برجوع أصحاب الضمير إلى رشدهم، لإعادة اللحمة إلى الجسد الذي أنهكته الأنانية والشللية.
سيبقى التاريخ يسجل، وسيأتي وقت الحساب، لكن من الحكمة أن نُصلح أنفسنا قبل أن يُصلحنا الدمار، وأن نعود كأصدقاء للنضال لا كأعداء على قارعة الطموحات الصغيرة.