جوان ديبو

ربما أكثر الاختبارات المفصلية التي أخفق فيها الرؤساء المعينين والانقلابيين في سوريا، المشوهة والهجينة والمولودة قسرياً وقيصرياً وتدريجياً منذ العقد الثالث من القرن الماضي، هو تبني نظام الحكم الأنسب لهذا البلد الذي تم تجميعه وترقيعه لأكثر من مرة وبأكثر من طريقة، والذي يتمثل في نظام حكم فيدرالي لا مركزي يشعر فيه الجميع بالحرية والمساواة والأمان والمشاركة في الحكم. ومن ثم النأي بهذا البلد، الغر والهزيل والخائر والناشئ وفق أجندات خارجية، عن سياسة المحاور الإقليمية والدولية، وعن حلبة التجاذبات الإقليمية والدولية.
بُعيد تشكيل سوريا بعد عديد التعديلات الإدارية والجيوسياسية التي كانت تجريها فرنسا وبريطانيا بين الفينة والأخرى، كانت الولاءات المتضاربة للفاعلين المنضويين في سوريا الناشئة، عنوة وبخلاف إرادة الكثيرين الذين أقحموا ضمن خريطتها، موزعة بين السعودية ومصر والعراق. ومنذ انقلاب المقبور حافظ الأسد سنة ١٩٧٠، تحول وجهة هذا الولاء وهذه التبعية إلى إيران على المستوى الإقليمي والى الاتحاد السوفييتي، فيما بعد روسيا، على المستوى الدولي. ومنذ استيلاء الفاتح الداعشي أبو محمد الجولاني على السلطة في دمشق في ديسمبر ٢٠٢٤ وبتخطيط وعلم وإيعاز إسرائيلي وأمريكي وتركي وروسي، يسلك هذا الآراجوز والبيدق السلفي الجهادي نفس مسلك الأسلاف، لكن هذه المرة نحو تركيا الأردوغانية. فالجولاني يثير لعاب أردوغان عن طريق الاستثمارات الموعودة والقواعد العسكرية، ويستقوي بتركيا ضد خصومه داخل سوريا، ولا سيما الكُرد لعلمه بما تعانيه تركيا من الفوبيا الكردية على مدار أكثر من قرن من الزمن. والاختبارين متشابكين ومتداخلين ببعضهما البعض، أي الإخفاق في تبني نظام حكم فيدرالي لا مركزي يناسب طبيعة وتركيبة سوريا والتشبث بنظام الحكم المركزي المقيت، ومن ثم إبعاد هذا البلد غير المتماسك عن سياسة المحاور والتبعية الإقليمية والدولية. فجميع الدول الإقليمية التي كانت وما زالت سوريا تسبح في فلكها كانت وما زالت تتبنى أنظمة حكم مركزية استبدادية، وخاصة إيران في وقت حكم الأسدين وتركيا في زمن الأراجوز الداعشي أبو محمد الجولاني. وبالتالي، لطالما ساندت هذه العواصم الإقليمية بشكل أو بآخر الحكام المتعاقبين في دمشق على بناء حكم مركزي مبني على القوة والبطش والإقصاء والتهميش. لكن وكما يقال “ليس كل مرة تسلم الجرة”، وهذه المرة ستدشن النهاية، ولو على مضض وببطء، للنظام المركزي البغيض في دمشق الذي لم يتمخض عنه سوى الويلات والمظالم والمآسي. وكل ما يفعله النظام الداعشي في دمشق وأسياده في أنقرة والدوحة في سبيل إعادة انتاج القديم بحلة داعشية جديدة لن يسفر عنه سوى بعض التأخير والتسويف والمماطلة في استجلاء الاستحقاقات. ما حصل سابقا في الساحل مع المكون العلوي، وما حصل في السويداء مع المكون الدرزي، وما يحصل من حملات إعلامية وميدانية ضد المكون الكردي وضد قوات سوريا الديموقراطية ليست سوى مخاض وإرهاصات تشي بأفول النظام المركزي وبولادة طبيعية مكتملة لنظام فيدرالي لا مركزي يقي البلاد من فصول حرب أهلية جديدة ويقطع دابر الشر والفتنة والخراب والاحتلال والتدخل القادم من أنقرة.