د.خيرالدين حسن
في عالم يتغنى بالتنوع والمساواة، تظل العنصرية شبحًا يتربص بالبشرية، يُشعل الصراعات ويُعمي العقول. إنها ليست مجرد كلمة تُرمى في نقاشات ساخنة، بل نظام اجتماعي وسياسي يُهدد أساس الإنسانية. في هذا المقال الثقافي-الاجتماعي-السياسي، سنغوص في جوهر العنصرية: تعريفها، صفات العنصري، شروطها، وأخيرًا، سنجيب على سؤال حساس: هل الكرد، كشعب عريق يعاني من التمييز التاريخي، عنصريون حقًا؟ سنعتمد على أدلة علمية وتاريخية لنرسم صورة واضحة، بعيدًا عن التحيزات، لنفهم كيف يمكننا محاربة هذا الوباء الذي يهدد مستقبلنا المشترك.
ما هي العنصرية؟ تعريف يتجاوز الكلمات
العنصرية ليست مجرد كره للآخر، بل هي نظام فكري وسلوكي يقوم على افتراض تفوق مجموعة بشرية على أخرى بناءً على خصائص متوهمة أو مبالغ فيها. وفقًا للأمم المتحدة في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1965)، تعرف العنصرية بأنها “أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يعتمد على العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني، ويهدف إلى إلغاء أو إضعاف التمتع بحقوق الإنسان الأساسية” .
أما منظمة اليونسكو، في بياناتها الشهيرة ضد العنصرية (منذ 1950 وحتى 1978)، فترى العنصرية كـ”نظرية بيولوجية زائفة تُدعي تفوقًا عرقيًا، وتُستخدم لتبرير التمييز الاجتماعي والسياسي” . ثقافيًا، تظهر العنصرية في التراث الشعبي والفنون، حيث تُصور بعض المجموعات كـ”أقل شأنًا”. اجتماعيًا، تُترجم إلى استبعاد في الوظائف أو التعليم. سياسيًا، تُستغل لإثارة الفتن، كما في حملات الانتخابات أو النزاعات الإقليمية.
العنصرية ليست دائمًا صريحة؛ قد تكون ضمنية، كالتحيزات غير الواعية التي تؤثر على قراراتنا اليومية، مما يجعلها أكثر خطورة لأنها تتسلل إلى أعماق المجتمعات دون أن نلاحظ.
من هو العنصري؟ صفات الشخصية التي تُهدد الجميع
العنصري هو الشخص الذي يؤمن بتفوق عرقه أو مجموعته الإثنية، ويعمل على ترجمة هذا الإيمان إلى أفعال تمييزية. لكن ليس كل من يفضل ثقافته عنصريًا؛ العنصري يتجاوز التفضيل إلى الإضرار بالآخرين. شروط العنصرية، كما حددتها الأمم المتحدة واليونسكو، تشمل:
التمييز بناءً على الخصائص الوراثية أو الثقافية: مثل رفض توظيف شخص بسبب لونه أو أصله.
الإقصاء أو التقييد: استبعاد مجموعات من الحقوق الأساسية، كالتعليم أو الرعاية الصحية.
التفضيل غير العادل: منح امتيازات لمجموعة دون أخرى، مما يعزز عدم المساواة.
الانتشار الاجتماعي: يجب أن تكون العنصرية متجذرة في المجتمع، ليست مجرد رأي فردي، كما في الأنظمة الاستعمارية أو الفصل العنصري.
الأثر الضار: يجب أن تؤدي إلى ضرر نفسي أو جسدي أو اقتصادي، كما في الجرائم الكراهية أو التمييز الوظيفي .
العنصري غالبًا ما يكون ضحية للتربية أو الدعاية السياسية، يستمد قوته من الخوف من “الآخر”. ثقافيًا، يُغذى بالأساطير والإعلام الذي يُشوه صورة المجموعات الأخرى. اجتماعيًا، يُنتج طبقات مجتمعية غير متكافئة. سياسيًا، يُستخدم كأداة للسيطرة، كما في حملات اليمين المتطرف.
هل الكرد عنصريون حقًا؟ بين الواقع والشائعات
الآن، إلى السؤال الشائك: هل الكرد، كشعب يمتد تاريخه إلى آلاف السنين، عنصريون؟ الإجابة القاطعة، بناءً على الدراسات التاريخية والاجتماعية، هي لا. الكرد ليسوا عنصريين كشعب، بل هم ضحايا رئيسيون للعنصرية في المنطقة. دعونا نستعرض الأدلة:
التاريخ يشهد: الكرد عانوا من حملات تمييز عرقي في تركيا، إيران، العراق، وسوريا على مر التاريخ. في تركيا، يُصنف الكراهية ضد الكرد كـ”كردوفوبيا” (Kurdophobia)، ويشمل حرمانًا من اللغة والثقافة، كما في تقارير الأمم المتحدة عن التمييز العنصري . في إيران، يواجهون قمعًا ثقافيًا ولغويًا تحت سياسات التمييز الفارسي، كما في دراسات عن “التمييز العنصري ضد الأقليات” . في العراق، تعرضوا للإبادة الجماعية مثل حملة الأنفال في الثمانينيات، التي قتلت عشرات الآلاف . في سوريا، تحت النظام السابق، حُرموا من الجنسية والحقوق الأساسية في سياسات عربية تمييزية .
الاجتماعي والثقافي: الكرد، كشعب متعدد الإثنيات (يشملون مسلمين،مسيحيين يزيديين، وعلويين)، يُعرفون بتسامحهم. دراسات مثل “Resistance from Below” في “Journal of Social Issues” تظهر أن الكرد يقاومون العنصرية من خلال بناء مجتمعات متعددة الثقافات، كما في روجافا (شمال سوريا) . الشائعات عن “عنصرية كردية” غالبًا ما تكون دعاية سياسية من أنظمة تُعادي الكرد، كما في تقارير عن “Turkish Racism Against Kurds” .
السياسي: الكرد يطالبون بالمساواة والحقوق، لا بالتفوق. في تقارير منظمات حقوقية، يُصور الكرد كضحايا للعنصرية، لا مرتكبين. مثلًا، في “A People’s Existence by Resistance”، يُبرز كيف يقاوم الكرد التمييز من خلال الحفاظ على لغتهم وثقافتهم دون إقصاء الآخرين .
مقارنة بين الكرد وهذه الدول: في حين أن الكرد، كأقلية مضطهدة، يركزون نضالهم على الحقوق والمساواة دون تمييز عرقي، فإن الدول المذكورة مارست سياسات عنصرية منهجية ضد الكرد. في تركيا، تُفرض سياسة “تركية واحدة” تُنكر الوجود الكردي، مما يُشبه الفصل العنصري . في إيران، التمييز الفارسي يُقمع الثقافة الكردية، بينما يُسمح للأغلبية بالتعبير الحر . في العراق، حملات مثل الأنفال كانت إبادة جماعية عرقية، بينما لم يُسجل للكرد حملات مشابهة ضد الآخرين وبالعكس لجأت ألاف العوائل العربية إلى كردستان بعد احتلال داعش لي الموصل . في سوريا، النظام السابق حرم الكرد من الجنسية، في حين سعى الكرد لبناء نموذج متعدد الثقافات في روجافا . هذه المقارنة تظهر أن الكرد، رغم الاضطهاد، يميلون إلى التسامح والتعاون، بينما الدول استخدمت العنصرية كأداة سياسية للسيطرة.
بالطبع، مثل أي شعب، قد يوجد أفراد كرد عنصريون، لكن هذا لا يعكس الشعب ككل. الادعاء بأن “الكرد عنصريون” غالبًا ما يكون تمييزًا معكوسًا، يُستخدم لتبرير قمعهم.
العنصرية ليست قدرًا، بل خيارًا نستطيع رفضه. شروطها تتطلب تمييزًا ضارًا، لكن الحل في التعليم والحوار. الكرد، كمثال حي، يُذكروننا أن الشعوب المضطهدة غالبًا ما تكون أكثر تسامحًا. دعونا نستلهم من تاريخهم لنبني مجتمعات تعتز بالتنوع. إذا كانت الذاكرة قوية كالفولاذ، فدعونا نستخدمها لمحاربة العنصرية، لا لتعزيزها.

