د.خيرالدين حسن

في الخامس من أكتوبر عام 1962، لم يكن الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة مجرد إجراء إحصائي؛ بل كان سيفاً معلقاً على رقاب الهوية الكردية في سوريا. تحت غطاء “كشف المتسللين”، جُرد نحو 120,000 كردي – وفقاً لتقديرات رسمية – من جنسيتهم، محولاً إياهم إلى “أجانب” (أجانب) أو “مكتومين” (مكتومي القيد) في وطنهم ذاته. مرت 63 عاماً على هذا الظلم المنهجي، الذي لم يقتصر على حرمان الحقوق المدنية فحسب، بل امتد إلى تفكيك النسيج الثقافي والإجتماعي للشعب الكردي. اليوم، في ذكرى هذا الحدث، يشهد الإعلام والصحف تغطية واسعة، لكن قلة منها تتناول المنظور الجديد: كيف يمكن لهذا الإرث المؤلم أن يتحول إلى قوة لبناء هوية كردية متجددة، خاصة مع إطلاق “شبكة ضحايا الإحصاء الإستثنائي” في الحسكة، التي تمثل خطوة غير مسبوقة نحو التنظيم الجماعي لاستعادة الحقوق.
الجرح التاريخي: حرمان ليس فقط من الجنسية، بل من الوجود الثقافي
لم يكن الإحصاء الاستثنائي، الذي نفذ تحت رئاسة ناظم القدسي وبدعم من حزب البعث الناشئ، مجرد خطأ إداري. كان جزءاً من سياسة “العربنة” المنهجية، التي استهدفت المناطق الكردية الغنية بالموارد في الجزيرة السورية. الفلاحون الكرد، الذين زرعوا أرضهم لقرون، وجدوا أنفسهم محرومين من التملك، التصويت، التعليم العالي، وحتى الزواج الرسمي. بحلول عام 2011، ارتفع عدد المتضررين إلى أكثر من 500,000 شخص، حسب مصادر رسمية في مديرية النفوس بالحسكة، مما أدى إلى تفاقم الفقر والنزوح الداخلي.
لكن المنظور الذي غالباً ما يُغفل هو التأثير الثقافي العميق. بدون جنسية، أصبحت اللغة الكردية محظورة في المؤسسات، والأسماء الكردية غير مسموح بها في السجلات المدنية، مما أدى إلى فقدان تدريجي للتراث الشفوي والفني. أغاني “الديوان” التقليدية، والاحتفالات بعيد النوروز، تحولت إلى أنشطة سرية، خوفاً من الإعتقال. هذا الحرمان لم يكن سياسياً فحسب؛ بل كان محاولة لمحو الهوية الثقافية، مما جعل الأجيال اللاحقة تشعر بالاغتراب في أرض آبائها. في تقرير حديث لمنظمات حقوقية، يُشار إلى أن آلاف الأطفال “المكتومين” نشؤوا دون إحساس بالانتماء، مما أثر على صحتهم النفسية والإجتماعية.
الجانب الاجتماعي: أجيال تُعيد اكتشاف نفسها وسط التمييز
من الزاوية الإجتماعية، يمثل الإحصاء نموذجاً لكيفية تفكيك المجتمعات. العائلات الكردية المحرومة من الجنسية واجهت صعوبات في الزواج، حيث لا يُعترف بزيجات “الأجانب” رسمياً، مما أدى إلى انتشار “الزيجات العرفية” وتفاقم مشكلات الوراثة والحضانة. النساء، خاصة، كن الأكثر تضرراً؛ فهن اللواتي يحملن عبء الحفاظ على التراث الثقافي في ظل الإقصاء. في مقابلات حديثة مع ضحايا، يروي أحدهم كيف أصبح “مكتوماً” منذ الطفولة، محروماً من فرص العمل والتعليم، مما يعكس كيف تحول الإحصاء إلى “لعنة عابرة للأجيال”.
ومع ذلك، هناك منظور جديد يبرز اليوم: القدرة على التحول. في سوريا الجديدة، بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، بدأت الأجيال الشابة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإعادة سرد قصص أجدادهم، محولة الجرح إلى مصدر إلهام. حملات مثل “أنا كردي سوري” على منصات التواصل تُعيد بناء الروابط الإجتماعية، مستلهمة من الثورة السورية التي أعادت الأكراد إلى الخريطة السياسية عبر قوات سوريا الديمقراطية (SDF).
السياسة اليوم: إطلاق الشبكة الجديدة كخطوة نحو التصحيح
سياسياً، يأتي الإحصاء كتذكير بفشل الدولة المركزية، حيث أدى إلى مشروع “الحزام العربي” في السبعينيات، الذي نقل آلاف العائلات العربية إلى أراض كردية مصادرة، مما زاد من التوترات العرقية. في الدستور الانتقالي لسوريا الجديدة، المُعتمد في مارس 2025، وُعد بـ”حقوق كاملة” للأكراد، لكن التنفيذ بطيء، مع استمرار آلاف “غير المسجلين” في مواجهة التمييز.
المنظور الجديد الذي لم يُكتب عنه كثيراً هو إطلاق “شبكة ضحايا الإحصاء الاستثنائي” اليوم في الحسكة، بالتزامن مع الذكرى الـ63. هذه الشبكة، التي تهدف إلى توثيق القصص الشخصية ودعم الدعاوى القانونية، تمثل تحولاً من الشكوى الفردية إلى العمل الجماعي. كما أكدت تقارير حديثة، تسعى الشبكة للضغط على الحكومة الانتقالية لإعادة الجنسية وتعويض الأراضي، مستفيدة من الدعم الدولي في اجتماعات مجلس الأمن. هذا التنظيم غير المسبوق يمكن أن يصبح نموذجاً لشعوب أخرى محرومة، مثل الروهينغا في ميانمار، محولاً الظلم التاريخي إلى أداة للتغيير السياسي.
نحو هوية كردية متجددة: الدعوة للعمل الجماعي
في سوريا الجديدة، يجب أن يكون الإحصاء الاستثنائي دروساً للمستقبل: إعادة الجنسية ليس كرمى، بل حق دستوري. الشبكة الجديدة تفتح باباً لإعادة بناء الهوية الثقافية من خلال ورش عمل لتعليم اللغة الكردية والتراث، مما يجعل الذكرى ليست مجرد تذكير بالألم، بل بداية للشفاء الجماعي.

إلى الحكومة: أدرجوا تعويضات شاملة في الدستور الجديد.

إلى الأكراد: استمرّوا في التنظيم، فالشبكة هذه خطوة نحو سوريا اتحادية حقيقية.
سوريا ليست ملكاً لفئة واحدة؛ إنها mosaic ثقافي يجب أن يشفى من جروح الماضي. هل ستكون الشبكة الجديدة بداية النهاية لعقود الإقصاء؟