د.خيرالدين حسن
️
هل كانت حرب سوريا 14 عاماً من أجل أنبوب غاز قطري؟ النظرية التي أعادت إحياءها سقوط الأسد
في خريطة تظهر خطاً أصفر يمتد من حقول الغاز القطرية عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا إلى أوروبا، يطرح السؤال نفسه بقوة: هل كانت الثورة السورية، التي تحولت إلى حرب أهلية دامت 14 عاماً، مجرد صراع على خط أنابيب غاز يهدف إلى تغيير خريطة الطاقة العالمية؟ هذه النظرية، التي انتشرت في الأوساط الإعلامية والتحليلية، تربط بين دعم روسيا لنظام بشار الأسد ومعارضة قطر وتركيا لنظامه، معتبرة أن السبب الجذري يكمن في مصالح الغاز الطبيعي. لكن هل هي حقيقة تاريخية أم مجرد نظرية مؤامرة؟ في هذا المقال، نستعرض التاريخ والأدلة والتطورات الأخيرة بعد سقوط الأسد في أواخر 2024، لنكشف عن طبقات هذا الملف المعقد.
جذور الاقتراح: خطة قطر للوصول إلى أوروبا عبر سوريا
يعود اقتراح خط أنابيب الغاز القطري-التركي إلى عام 2009، حيث طرحت قطر فكرة بناء خط ينقل الغاز الطبيعي عبر الأردن وسوريا إلى تركيا، ثم إلى أوروبا عبر شبكات مثل “نابوكو”. كان الهدف تقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، الذي يسيطر عليه “غازبروم”، وتوفير بديل اقتصادي لقطر كأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال (LNG) في العالم. كان الخط المقترح يمتد لمسافة 1500 كيلومتر بتكلفة تصل إلى 10 مليارات دولار، وكان يُنظر إليه كجزء من “ممر الطاقة الجنوبي” الأوروبي لتنويع المصادر. ومع ذلك، رفض الأسد التوقيع على الاتفاق، مفضلاً صفقة مع إيران والعراق لبناء خط “إسلامي” ينقل الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا إلى البحر المتوسط، مما يعزز المحور الشيعي ويحمي مصالح روسيا في السوق الأوروبية. هذا الرفض، حسب النظرية، أثار غضب قطر والسعودية، اللتان دعمتا المعارضة السورية لإسقاط الأسد وتمكين الخط القطري، بينما دعمت روسيا النظام لمنع أي تهديد لاحتكارها للغاز الأوروبي.
في هذا السياق، يُفسر الدعم الخارجي للأطراف المتنافسة: قطر وتركيا، اللتين لديهما روابط تاريخية مع فصائل المعارضة مثل هيئة تحرير الشام (HTS)، رأتا في الثورة فرصة للسيطرة على تدفقات الطاقة، مما يمنحهما نفوذاً اقتصادياً وسياسياً. أما روسيا، فقد تدخلت عسكرياً في 2015 لدعم الأسد، ليس فقط لأسباب استراتيجية، بل لإفشال مشاريع الخطوط المنافسة التي قد تهدد صادراتها.
الجانب الآخر: نظرية “الأنابيب” كمؤامرة مبالغة
رغم جاذبيتها، تُعتبر هذه النظرية، المعروفة بـ”بيبلايستان” (Pipelineistan)، مبالغة أو حتى مؤامرة، لأنها تبسط الصراع السوري إلى صراع طاقة بحت، متجاهلة جذوره في الاحتجاجات الشعبية عام 2011 ضد الفساد والقمع. الثورة بدأت كحراك داخلي، قبل أن تتحول إلى حرب بالوكالة بسبب مصالح إقليمية أوسع، مثل التوازن الطائفي (سنة مقابل علويين/شيعة) والصراع على النفوذ الإقليمي. كما أن الخطوط المقترحة لم تكن واقعية: قطر تحولت إلى تصدير الغاز المسال عبر السفن، الذي أرخص وأكثر مرونة من الأنابيب (تكلفة النقل عبر الأنابيب تصل إلى 7-9 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، مقابل 5-5.5 دولارات للغاز المسال). بالإضافة إلى ذلك، لم يكن هناك دليل قاطع على اقتراح قطري رسمي لسوريا في 2009، ورفض الأسد لم يُعلن كسبب طاقي، بل كان جزءاً من استراتيجية “البحار الأربعة” لسوريا لتصبح مركزاً للطاقة الإقليمية. العراق غير المستقر والعقوبات على إيران جعلا الخط الإيراني غير قابل للتنفيذ أيضاً، وأوروبا اليوم تعتمد على الغاز النرويجي والأمريكي والقطري المسال، مما أغلق الباب أمام مثل هذه المشاريع الكبرى.
بالنسبة لروسيا، كان تدخلها أكثر ارتباطاً بمصالح استراتيجية عامة، مثل الحفاظ على قواعدها العسكرية في طرطوس ولاذقية، وليس فقط الغاز، خاصة مع تحول أسواق الطاقة نحو الخضراء وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري بحلول 2050.
بعد سقوط الأسد: إمكانية إحياء الخط أم مخاطر جديدة؟
مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، عادت النظرية إلى الواجهة. أعلن وزير الطاقة التركي ألبرسلان بايراقتار في ديسمبر 2024 عن دراسة إمكانية إعادة إحياء الخط، مستفيداً من علاقات أنقرة ودوحة مع HTS، الحاكم الفعلي في سوريا. الولايات المتحدة بدأت برفع بعض العقوبات في يناير 2025 لأغراض إنسانية واقتصادية، مما قد يفتح الباب لإعادة بناء البنية التحتية. يُنظر إلى سوريا كمركز طاقة محتمل، حيث يمكن أن يوفر الخط غازاً أرخص لأوروبا ويقلل من نفوذ الصين في إعادة بيع الغاز المسال. ومع ذلك، نفت قطر أي محادثات حالية، ويظل المشروع معلقاً بسبب عدم الاستقرار والمخاطر الأمنية: قد تستغل الرسوم العابرة لتمويل شبكاتها، مما يمنحها نفوذاً غير مسبوق على إمدادات أوروبا. تركيا، بدورها، تركز على احتواء الأكراد والنفوذ الإقليمي أكثر من الطاقة، مستفيدة من ضعف روسيا وإيران.
خاتمة: الطاقة عامل، لكن ليس الوحيد
بينما يظل خط الغاز القطري رمزاً للصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، فإن حرب سوريا كانت أعمق من مجرد أنابيب: مزيج من الثورة الشعبية، الطائفية، والتدخلات الخارجية. سقوط الأسد يفتح آفاقاً لسوريا كمركز طاقة، لكنه يحمل مخاطر جديدة في ظل الهيمنة التركية-القطرية. هل سيتحقق الحلم القطري أم يبقى وهماً؟ الإجابة تكمن في استقرار سوريا الجديد، الذي يتطلب توازناً بين المصالح الاقتصادية والأمنية.

