عبدالباقي اليوسف
منذ سيطرتها على مقاليد السلطة في دمشق، سارعت الحكومة السورية الانتقالية إلى اتخاذ قرارات جذرية وشكلية لترسيخ شرعيتها الجديدة. لقد أعلنت هذه الحكومة أنها تمثل كافة المكونات السورية وتعهدت بالحفاظ على حقوق الجميع دون تمييز. وقد شملت قراراتها الأولية الإعلان الدستوري الجديد، وتغيير العلم وشعار الدولة، وحل الأجهزة الأمنية والجيش وإعادة تشكيلهما، بل وحتى منح الجنسية السورية لـ “إرهابيين عالميين”، في خطوة أثارت الكثير من الجدل.
لكن السؤال الجوهري يبقى معلقاً: هل تُرجمت هذه الشعارات إلى سياسات عملية تحقق المساواة لمكونات الشعب السوري، أم أنها ظلت حبيسة الأبراج العاجية للخطاب السياسي؟
غياب الاعتراف: تمييز إزاء المكون الكردي
في الوقت الذي تدعي فيه الحكومة الانتقالية أنها تعمل على بناء دولة تضمن الحقوق لجميع مكوناتها، يكشف سجل قراراتها حتى اليوم عن تجاهل ممنهج للقضية الكردية وحقوق الأقليات الدينية. حتى اللحظة، لم تُقدم دمشق على أي خطوة عملية ذات دلالة تجاه المكون الكردي. لم يصدر مرسوم رئاسي يقرّ بـ الثقافة الكردية، ولا تم الاعتراف بـ اللغة الكردية كلغة رسمية في البلاد، وهي أبسط المطالب القومية والثقافية لأحد أكبر المكونات في سوريا.
الأمر لا يتوقف عند الحقوق القومية، بل يمتد ليشمل الأقليات الدينية. ففي نهاية أيلول الماضي، صدر مرسوم رئاسي بتحديد الأعياد الرسمية في البلاد، لكنه أغفل تماماً عيد النوروز (العيد القومي للكرد) كما وخصص أياماً لأعياد الديانات الإسلامية، والمسيحية، لكنه لم يخصص أي يوم كـ عيد رسمي للأخوة من الديانة الإيزيدية، وهي ديانة أصيلة ومكون أساسي من نسيج المجتمع السوري.
إن هذا التجاهل المتعمد للثقافة الكردية، ورفض الاعتراف بالديانة الإيزيدية رسمياً، وعدم إدراج أعيادهم، يثير شكوكاً عميقة حول مصداقية الحكومة.
في هذه الحالة، ماذا يمكن أن يُقال؟ هل الحكومة الانتقالية صادقة حقاً في تعاملها مع جميع المكونات على قدم المساواة، كما تدعي في الإعلام ولقاءاتها الدولية؟
الواقع يؤكد أن هذا السلوك لا يعدو كونه نفاقاً سياسياً. فكيف يمكن لحكومة تدعي تمثيل الجميع أن تمارس هذا القدر من التمييز الصارخ والعنصري ضد مكونات أصيلة من الشعب السوري؟ هذا التمييز ضد القوميات واللغات التي هي “من صنع الله عز وجل” – كما يفترض أن يؤمن التيار الإسلامي الذي يحكم دمشق اليوم – يكشف أن الشعارات الدينية تذوب أمام العقلية القومية الضيقة.
إن التيار الذي يسيطر على دمشق، والذي يمكن تصنيفه ضمن خانة الأحزاب القومية العربية (كما أشرتُ إلى حزب الاخوان المسلمين في كتابي “الانفجار السوري” الصادر في عام 2017)، يثبت أنه ورث ذات العقلية الإقصائية للنظام السابق. هذه الأحزاب القومية، التي تجاوزت بلدانها مرحلة التحرر الوطني ونالت استقلالها، تتحول في سياقات التنوع إلى قوى عنصرية ترفض الاعتراف بالآخر، على النقيض من الحركة الكردية التي لا تزال تناضل لنيل اعترافها بهويتها وحقوقها الثقافية الأساسية.
فهل ستنطلي هذه المظاهر الزائفة على الدول المعنية بالقضية السورية؟ أم أن انطلاقة النظام الجديد كانت بالأساس قائمة على إرضاء القوى الإقليمية والدولية عبر تقديم تنازلات على حساب حقوق المواطنين السوريين الحقيقيين، مقابل تأمين غض طرف تلك القوى ولو مؤقتاً؟ إن استمرار التمييز هو تدمير للمستقبل المأمول في الكرامة الأنسانية، المُفترض لسوريا، ويعكس أن النخبة الحاكمة الجديدة اختارت طريقاً مبيتاً يفرق، بدلاً من التوجه نحو خطاب وطني جامع حقيقي.
