Beshir Shekhee
عام 1984، خرجت بالقطار من حسجة إلى الشام. داخل المقطورة، كان هناك شباب كورد من عامودة وقامشلو، أحدهم يحمل الطنبورة بين يديه كما يحمل الإنسان قلبه. قال أحدهم: “الطريق طويل، اعزف لنا، لنعبر المسافة بالموسيقى”.
بدأ العزف والغناء، وانتشرت الأصوات كما لو أن القطار أصبح مسرحًا للحياة. حين أعطاني الطنبورة، اكتشفت أنني أعرف عزف أغنيتين فقط، فتسلم أحد الأصدقاء الآلة وبدأ بعزف ألحان تحمل في كل وترها نبض الأرض. هكذا تبادلنا العزف والغناء، كل واحد منا يضيف جزءًا من روحه، حتى اختفى شعور الملل في رحلة لا تُنسى.
اقترب شاب في الثلاثين من عامودة، كان يراقب بصمت، وعندما طلبنا منه العزف، استلم الطنبورة وأبدع في أداء أغنية “خانمامين” لشفان برور، عزفًا وغناءً، حتى شعرت أن الموسيقى كانت تتحدث باسمه وحده.
عندما عدت من الشام، لم أستطع التخلي عن الموسيقى، فاشتريت آلة موسيقية وتدربت عليها سماعيًا، حتى صرت أستطيع أداء بعض الأغاني كهواية، حبًا في العزف والغناء، وليس لغير ذلك.
ما أردت أن أصل إليه هو أمر أعمق: معظم شباب الكورد الذين كانوا معنا يعزفون على آلة موسيقية على الأقل. كأن العزف والغناء منحوت في جيناتنا، وكأن الموسيقى جزء من هوية الإنسان الكردي. لا تجد هذه الكمية الهائلة من الحب للموسيقى في أمم أخرى.
ولا يقتصر الأمر على الموسيقى: كل فنان تشكيلي كردي، وكل مطرب كردي، غالبًا ما يجمع بين الرسم والكتابة والعزف والغناء. كأن الفن عند الكردي لا يقبل الانقسام، كأن الفنان الكامل يجب أن يكون شاملاً في كل المجالات. إذا بحثت بين الأمم، نادرًا ما تجد فنانًا شاملاً كالذي يخرج من الجذور الكردية. الكردي يكتب كلمات أغنيته، يلحنها، يعزفها، ويغنيها، فيصبح فرقة كاملة بيده.
هكذا، الموسيقى والفن ليسا مجرد هواية، بل جوهرٌ ينطق به الكردي، ويعلّم العالم أن الإبداع لا يُختزل في أداة واحدة، ولا في صوت واحد، بل في الإنسان الذي يعرف أن يكون كاملاً.
