د.خيرالدين حسن

من بين أكثر أنواع الظلم التي تعرّض لها الكُرد في سوريا، هناك فصلٌ مظلم لم يُكتب عنه كثيرًا: التمييز الأكاديمي والمؤسسي ضد الطلبة الكُرد.
ذلك التمييز الذي لم يكن مسطّرًا في القوانين، بل كان يُمارَس كسياسة خفية داخل الجامعات والمعاهد، في زمنٍ كان شعار الدولة فيه: الولاء قبل الكفاءة، والانتماء قبل العلم.

🔹 مفارقة خطيرة: فصل الطالب الكردي من الجامعة… ثم تجنيده في الجيش!

في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تعرّض مئات الطلاب الكُرد للفصل من الجامعات والمعاهد بحجة أنهم “يشكلون خطرًا على أمن الدولة”.
لكن المفارقة الصادمة أن هؤلاء أنفسهم، بعد فترة قصيرة، كانوا يُستدعون إلى الخدمة الإلزامية في الجيش السوري!

وهنا السؤال الذي لم يجرؤ أحد على طرحه:

إذا كان الطالب الكردي خطرًا على أمن الدولة، فكيف يصبح مؤتمنًا على سلاح الدولة؟
وإذا كانت الجامعة لا تتحمّل فكره، فكيف يتحمله الجيش؟

الجواب ليس في “الأمن”، بل في سياسة الإقصاء الممنهج التي أرادت إبعاد الكرد عن مواقع الفكر والتنوير، وإبقائهم في مواقع الطاعة والتنفيذ.
كان الهدف أن يُمنع الكردي من القلم، ويُساق إلى السلاح.
أن يُقصى من العقل، ويُستخدم كجسد في خدمة دولة لم تعترف يومًا بوجوده.

🔹 تمييز في القبول الجامعي بعد التخرج … لا في الدرجات

من الشهادات الكثيرة التي تناقلها أبناء جيل السبعينيات والثمانينيات، نعلم أن عشرات الطلاب الكُرد الذين حصلوا على علامات مرتفعة في الثانوية العامة وبعدها التخرج من الكليات التي يستحقونها.
كان يُقال لهم بصوتٍ منخفض أو تلميحٍ واضح: “ ليست لكم مكان عندنا.”
وفي المقابل، قُبل آخرون بدرجات أقلّ لكنهم من خلفيات حزبية أو عائلية “مضمونة الولاء”.

هذا التمييز لم يكن مجرد ظلم تعليمي، بل اغتيال اجتماعي صامت.
لقد حوّل التعليم من فرصة للترقّي إلى أداة فرز قومي، وترك جرحًا عميقًا في الذاكرة الجماعية الكردية.

🔹 الولاء الإجباري… بطاقة الأمان من الفصل

ولم يقتصر التمييز ضد الطلبة الكُرد على المنع أو الإقصاء، بل تعدّاه إلى فرض الولاء السياسي كشرط للبقاء في الجامعة.
ففي تلك الحقبة، كان يُنظر إلى الطالب الكردي على أنه “موضع شك” ما لم يُثبت انتماءه لحزب البعث أو لمنظمة “شبيبة الثورة”.

كان كثير من الطلبة الكرد يُجبرون – بشكل مباشر أو عبر الضغط غير المعلن – على الانتساب إلى شبيبة الثورة أو حزب البعث كي ينالوا “الأمان” من الفصل أو التهم الأمنية.
فمن لا يحمل بطاقة الحزب، كان يُعتبر مشروع خطر.

أما من يعلن ولاءه، فكان يُكافأ بإضافة علامات إضافية عند القبول الجامعي، أو عند المفاضلات الداخلية، أو يُمنح فرص المشاركة في “الدورات الصاعقة” و”القفز المظلي ”، وهي دورات ذات طابع أمني كانت تُستخدم كاختبار للولاء العقائدي قبل المهني.

تحوّلت الجامعة إلى ساحة ولاء سياسي قسري، تُكافأ فيها الطاعة ويُعاقَب فيها الكرامة.
لم يكن الطالب يُسأل عن علمه، بل عن مدى التزامه بالحزب الحاكم.
وفي هذا المناخ القاسي، حُرم جيلٌ كامل من الكرد من حقهم الطبيعي في التعلّم الحرّ لأنهم رفضوا أن يبيعوا ضميرهم مقابل شهادة.

🔹 الطبقة الكردية المتعلّمة… التي كُسرت عمدًا
فُصلت طبقة كاملة من الشباب الكُرد المتعلمين والمثقفين عن مواقع التأثير في المجتمع السوري.
لم يُسمح لهم بأن يصبحوا أساتذة جامعيين، ولا موظفين في الوزارات الحساسة، ولا إعلاميين أو باحثين في مراكز الدولة.
تمّ دفعهم نحو المهن الهامشية أو نحو الصمت والمنفى.
لم يكن الهدف فقط تهميشهم اقتصاديًا، بل تجفيف منابع الوعي الكردي داخل مؤسسات الدولة، وإقصاء الفكر المستقل الذي قد يطرح سؤال الهوية أو المساواة أو اللغة.

🔹 الأدلة والشهادات الممكنة
رغم غياب الإحصاءات الرسمية بسبب الرقابة، إلا أن هناك دلائل واضحة:
• تقارير لمنظمات سورية مستقلة مثل مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا تشير إلى حالات فصل تعسفي بحق طلاب كرد بين 1980–2000.
• شهادات منشورة في جميع الجرائد الكردية القديمة توثق حرمان طلاب من الكليات و المعاهد لأسباب أمنية.

• شهادات مثقفين من تلك المرحلة تحدثوا في مذكراتهم عن “التمييز الأكاديمي غير المعلن”.
🔹 المطلوب اليوم
اليوم، وبعد أن تغيّرت خرائط سوريا سياسيًا وجغرافيًا، لا يمكن لأي مشروع وطني صادق أن يتجاهل هذه الحقبة السوداء.
المصالحة الحقيقية لا تبدأ من السياسة بل من العدالة المعرفية — من إعادة الاعتبار لأولئك الذين حُرموا من العلم والعمل بسبب هويتهم.

اقتراحات ملموسة:

  1. إنشاء أرشيف وطني لتوثيق الفصل الأكاديمي التعسفي بحق الطلاب الكُرد.
  2. إصدار قرارات رمزية لإعادة الاعتبار أو شهادات شرفية بأثر رجعي لهؤلاء الضحايا.
  3. تعديل القوانين الجامعية بحيث يُمنع أي تمييز على أساس الانتماء القومي أو السياسي.
  4. تضمين هذه المرحلة في مناهج التاريخ السوري الجديد، ليعرف الجيل القادم كيف استُخدم التعليم كأداة قمع لا كوسيلة تحرر.

الجامعة التي تفصل طلابها خوفًا من فكرهم، هي نفسها التي تُخرّج جهلًا مطيعًا.
والدولة التي تخشى من قلم الكردي وتثق بسلاحه، لا تبحث عن أمن… بل عن خضوع.

لكن هذا الجيل الذي حُرم من القاعات حمل فكره معه إلى المنفى، إلى الصحافة، إلى الوعي الشعبي.
ظنّ النظام أنه أطفأ صوتهم، لكنه في الحقيقة أنجب وعيًا كرديًا جديدًا أكثر إصرارًا، وأقدر على نقد ا.