د.خيرالدين حسن

لم يكن بيان حزب العمال الكردستاني (PKK) الصادر في 26 أكتوبر 2025 مجرّد إعلان عسكري عن إعادة تموضع قواته من الأراضي التركية إلى جبال قنديل، بل أقرب إلى إعلان سياسي يختتم مرحلة ويفتح أخرى في مسار واحد من أطول النزاعات في الشرق الأوسط. فبعد أكثر من أربعة عقود من المواجهة المسلحة، يأتي هذا الانسحاب ليطرح تساؤلات عميقة حول حقيقة ما يجري: هل نحن أمام بداية “سلامٍ دائم” أم أمام إعادة تموضع تكتيكية في معادلة إقليمية متحركة؟

ما الذي تغير؟
البيان الذي تلاه قادة الحزب في قنديل قدّم نفسه بوصفه “خطوة نحو نزع السلاح والسلام”، متحدثًا عن تعاون مع الحكومة التركية ضمن إطار “تركيا خالية من الإرهاب”. لغة البيان لم تخلُ من مفردات جديدة نسبيًا على خطاب الحزب: “الإصلاحات الديمقراطية”، “الضمانات القانونية”، و“تفكيك الهياكل المسلحة”.
لكن خلف هذا التحول اللغوي، تقف معادلة سياسية أكثر تعقيدًا. فالمؤتمر الثاني عشر للحزب، الذي انعقد قبل أشهر، أشار بوضوح إلى أن “مرحلة الكفاح المسلح قد استنفدت شروطها التاريخية”، وهو ما مهد عمليًا لهذا القرار.
خيبة التوقعات أم إعادة تموضع؟

قبل البيان بساعات، كانت التحليلات تتحدث عن “خطوة تاريخية مرتقبة”، ربما في إطار مصالحة مشروطة أو إعادة هيكلة داخلية. لكن الانسحاب الكامل بدا، بالنسبة للبعض، مفاجئًا بل وصادماً.
فهل خابت التوقعات؟
الجواب يتوقف على زاوية النظر.
من منظور سياسي، يمكن قراءة الخطوة كتنازل كبير من الحزب لصالح تسوية قد تكون مطبخة خلف الكواليس، خاصة أن البيان استخدم مصطلحات متطابقة تقريبًا مع الخطاب التركي الرسمي حول “إنهاء الإرهاب”.
أما من منظور استراتيجي كردي، فيُنظر إلى الخطوة بحذر: فانسحاب الكريلا من الداخل التركي يعني تفريغ الساحة من أحد أهم أدوات الضغط الكردي التاريخية، دون وجود ضمانات سياسية أو حقوقية مقابلة.

رسائل إلى من؟
البيان حمل رسائل متعدّدة الاتجاهات:

  • إلى أنقرة: أن الحزب مستعد لتسوية تاريخية شريطة الاعتراف بالحقوق الكردية في الدستور والمجتمع.
  • إلى المجتمع الدولي: أن الحركة الكردية ليست ضد السلام أو الاستقرار، بل ضد الإقصاء والتهميش.
  • إلى الداخل الكردي: أن الكفاح المسلح لم يعد المسار الوحيد، وأن زمن البندقية قد يفسح المجال لزمن السياسة والمجتمع المدني.

لكنّ المعضلة تبقى في الضمانات: فالتجارب السابقة، خصوصًا بعد عملية السلام 2013، انتهت بانهيار الثقة وعودة النزاع أكثر دموية.

احتمالات المستقبل
ثمة ثلاثة سيناريوهات متداولة بين المراقبين:

  1. تسوية تدريجية تحت رعاية إقليمية، تبدأ من وقف العمليات وتنتهي بإطلاق مسار تفاوضي أوسع يشمل حزب الشعوب الديمقراطي (DEM).
  2. تجميد مؤقت للنشاط المسلح في انتظار تغيرات سياسية في تركيا بعد الانتخابات المقبلة.
  3. تحول استراتيجي للحزب نحو الإقليم، أي تركيز الجهود في شمال العراق وسوريا ضمن مشروع “السلام الإقليمي” المذكور في البيان.

قد يرى البعض في الخطوة خيبة أمل للكثير من الأنصار الذين ربطوا نضال الكريلا بمفهوم “المقاومة الوجودية”، لكن السياسة – كما يعلم القادة الثوريون – لا تُدار بالعواطف، بل بموازين القوى.
الانسحاب من تركيا لا يعني نهاية النضال، بل ربما بداية تحوّله إلى أشكال جديدة أكثر عقلانية وأقل كلفة بشرية.
غير أن السؤال الأهم يبقى:
هل ستلتقط أنقرة هذه اللحظة لتفتح صفحة جديدة مع الكرد، أم ستعتبرها انتصارًا يُغريها بالمزيد من التشدد؟

إن الإجابة عن هذا السؤال وحدها ستحدّد ما إذا كان 26 أكتوبر 2025 يومًا لتاريخ السلام… أم مجرد استراحة مؤقتة