د.خيرالدين حسن
لم تكن رحلتي إلى دبي مجرّد سياحة وتعرّف على مدينة مذهلة بسرعتها العمرانية وحضورها الحضاري. لقد كانت مناسبة لاختبار سؤال ظلّ يطاردني لسنوات: هل المشكلة في المكان أم في الذهنية التي نحملها معنا أينما ذهبنا؟
دبي، تلك المدينة التي تجمع العالم دون أن تسأل أحدًا عن دينه أو قوميته، كشفت لي شيئًا آخر… وهو أن بعضنا ما زال عاجزًا عن الخروج من “صندوق الهوية الضيّق” مهما سافر بعيدًا.
المشهد الأول: “أهلاً بكم في الجمهورية العربية السورية”
في Global Village دخلت جناح سوريا، وتجوّلت بين المنتجات والوجوه. حين عرف العامل هناك أنني من قامشلو – وقبل أن يسأل عن شيء آخر – قال:
“أهلاً بكم في الجمهورية العربية السورية.”
ذلك التشديد على كلمة “العربية” لم يكن صدفة. كان رسالة غير مرئية:
أنت هنا ضيف… في وطنك الأصلي.
ولمّا قلت إنني كردي، اختفى الدفء من الحوار.
لم أرد. ليس لأنني ضعيف، بل لأنّ الكلمات لم تعد قادرة على إصلاح الشرخ الذي خلّفته عقود من الإقصاء.
المشهد الثاني: مترو دبي… وكراهية بصوت مرتفع
في المترو، كان شاب يتحدث مع صديقه عن “الكورد”، و”قسد”، و”حزب العمال”، ثم عن “تصفية تركيا لهم” ووعود اردوغان لهم بإزاحة الكورد……، وكأنّ الحديث عن كائنات غريبة، لا عن بشر لهم أهل وذاكرة ووجوه.
عندها لم أستطع الصمت.
رفعت صوتي وسألته أمام الجميع:
“ماذا تريدون من الكرد؟ ماذا فعلوا بكم؟ ولماذا هذا الحقد؟”
تجمّدت وجوه من حولنا.
الشاب لم يستطع الرد.
ارتبك للحظة، نزل في أول محطة بعدها مباشرة وبصمت كامل… لا اعتذار، لا تفسير، لا حتى محاولة استمرار الحوار.
هرب من مواجهة بسيطة كشفت هشاشة ما يردّده دون تفكير.
المفارقة التي لا نفهمها
نحن دولة تُقال عنها “سوريا لجميع السوريين”، لكن في الوعي الجمعي هناك سلّم غير معلَن:
- أن تكون سنيًا أولًا،
- ثم عربيًا ثانيًا،
- وكل ما عدا ذلك… هوامش.
والأخطر أن الكرد – رغم كونهم مسلمون سنةتاريخيًا – لا يُنظر إليهم كشركاء، بل كاستثناء، كجسم يجب ضبطه أو احتواؤه أو التشكيك في ولائه.
لماذا هذه الكراهية؟
لأن الهوية عند بعضنا تُفهم كسيطرة، لا كمساحة مشتركة.
ولأن الدولة لعقود عوّدت الناس على التفكير بثنائية:
معي أو ضدي… عربي أو مشبوه…
وهكذا، تحوّلت قومية كاملة إلى مادة للتنميط والشيطنة، لا للتعارف والشراكة.
لكن الحقيقة أبسط مما يعتقدون
الكرد ليسوا ضيوفًا في سوريا.
الكرد ليسوا دخيلين أو طارئين.
الكرد ليسوا مشروع انفصال في خيال البعض.
الكرد شعب ساهم في بناء الدولة، الثقافة، الاقتصاد، والفكر.
ولم يطلبوا أكثر من حق طبيعي:
أن يقال لهم: أنتم هنا… أبناء هذا الوطن.
المرض الحقيقي ليس في الخلاف
بل في رفض الاعتراف.
في تحويل الهوية إلى محكمة، والمواطنة إلى اختبار مذهبي وقومي.
نحن لا نحتاج معجزة لتخفيف التوتر.
نحتاج فقط إلى عقل بسيط يقول:
• المختلف ليس عدوًا،
• والشريك لا يختبر بإخلاصه كل صباح،
• والوطن لا يُبنى بلغة التفوّق.
ما الذي كشفته دبي حقًا؟
أن التطوّر الحضاري لا يكفي إذا ظلّت ذهنيّة الإقصاء تتحرك معنا كظلّ.
يمكنك أن تعيش في مدينة عالمية… وأن تحمل داخلك حدودًا ضيقة.
ختامًا
لم أكتب هذه التجربة لتأجيج الغضب، بل لتسليط الضوء على سؤال جوهري:
هل نريد دولة تُعرّف مواطنيها بهوية واحدة؟ أم وطنًا يتّسع للجميع بلا قيد؟
القضية ليست الكرد وحدهم.
القضية في مستقبل بلد لا يزال عاجزًا عن رؤية ثروته الحقيقية:
تنوعه.حتى ذلك اليوم… سنظل نرفع أصواتنا.
لا طلبًا لامتياز، بل طلبًا لحقّ بسيط:
أن نُعامَل كأبناء وطن… لا كهوامش تُمحى.


