مهدي كاكەيي
تعلّم (زرياب) على يد (اسحاق الموصلي) الذي كان من أشهر المغنيين والموسيقيين خلال العصر العباسي والذي بلغ أعظم المنازل وأعلى الرُتب عند ستة من خلفائه وكَبُر في كنفه، والذي بِدوره لم يبخل على زرياب بشيء يعرفه وبِحكمة يملكها، فعلّمه ودرّبه وزوّده بالقيم والسلوكيات الحسنة ليجعل منه فناناً بارعاً قلّ أمثاله.
لم تستمر العلاقة بين المُعلّم وتلميذه بهذا الشكل الحَسَن، فذات مرةٍ عندما طلب الخليفة العباسي (هارون الرشيد) من إسحاق الموصلي بأن يحضر له مغنّياً جديداً موهوباً، فقَدِم زرياب مع مُعلّمه إلى بلاط الخليفة وجلس في مجلسه وقام بالعزف على عوده الخاص الذي كان قد صنعه بنفسه وبدأ بإلقاء قصيدة ألّفها في مدح الخليفة، عندها سُرّ الخليفة كثيراً بعد أن أطرب زرياب مسمعه بِصوته العذب وعزفه الراقي وأُعجب به، وأكرمه بالمال، الأمر الذي أثار الحسد والخوف لدى مُعلّمه (إسحق)، الحسد من إعجاب الخليفة له ولمدحه، والخوف على مكانته ومقامه، مما دفعه بعد أن خرجا من عند الخليفة أن يطلب من زرياب بأن يقوم على الفور بمغادرة بغداد دون رجعة وإلا سيقوم بِقتله والقضاء عليه نهائياً، فترك زرياب بغداد و توجّه مع عائلته الى المغرب في شمال أفريقيا وبعدها أكمل مسيرته الى إسپانيا وإستقر هناك ومات فيها في سنة 852.
لم يكن زرياب مُجرّد عبقري في المجال الموسيقي، ومجرد ملِّحنٍ ومغنٍّ بارعٍ فقط، فلقد كان شاعراً موهوباً، وعالِماً مُلِمّاً بِمختلف ألوان العلوم والمعرفة والآداب، حيث إنه كان فلكياً عارفاً بالنجوم ومطّلعاً على جغرافية الأرض والبلدان، ومتعمقاً في التاريخ وفي أخبار الملوك والأمراء، فكان موسوعة متنقلة، وهذا ساعده لأن يقدّم العديد من الإسهامات ويقوم بالكثير من التجديدات في مختلف مجالات الحياة.
قدّم زرياب إسهامات عديدة و أدخل تحسينات عديدة على آلة العود، فجعلها أخَف وزناً، حيث أنه إستخدم في صناعة أوتاره مواداً جديدة كالحرير ومصران شبل الأسد، وكذلك قام بإضافة الوتر الخامس إلى العود والذي رأى فيه زرياب ضرورةً إستكمالاً لمجموعة النغمات والأصوات التي كانت تخرج من العود ولزيادة الحُريّة في أداء القطع الصوتية والألحان المختلفة، وجعله متوسطاً بين الأوتار الأربعة السابقة، بالإضافة إلى إنه قام بتغيير المضراب الخشبي الخشن والذي يؤذي الأوتار ويتسبب في إتلافها فيما بعد واستبدلها بمضرابٍ من قوادم (ريش) النسر الأكثر ليونة ونقاوةً وخفةً على الأصابع والذي يحافظ على سلامة الوتر لمدة أطول بكثير. قام بِصُنع آلات كثيرة في بغداد وكوردستان ونقلها معه الى اسپانيا، وأصبح بذلك زرياب حلقة الوصل في نقل الفنون الموسيقية وآلاتها من الشرق إلى الغرب.
بعد أن لاقى زرياب قبولاً وإستحساناً في قلوب الناس في إسپانيا وصارت له مكانته الاجتماعية العالية ودوره الفعّال في المجتمع الإسپاني، قام بتأسيس مدرسةٍ للغناء والموسيقى، والتي تعدّ أول مدرسةٍ تمّ تأسيسها لتعليم علوم الموسيقى وفنون الغناء وقواعد اللحن والإيقاع والتي أصبحت في مدة قصيرة قِبلة لِعُشّاق الفن والموسيقى في مختلف بِقاع العالم. إتّبع زرياب في مدرسته فلسفة تعليمية خاصة به، تقوم على أسس علمية في الصوتيات والموسيقى، والتي كانت تبدأ بإجراء إختبار لأصوات المتقدّمين الى المدرسة قبل البدء بتعليمهم، فبذلك يعد أول مَن وضع أسس وقواعد لفحص المبتدئين الراغبين في التعلّم، والتي يتم اتباعها حتى يومنا هذا في مختلف المعاهد والمراكز الفنية.
يُعتبر زرياب كذلك أول من وضع قواعد عِلم (الصولفيج) وتربية الصوت والسمع والقراءة الموسيقية، وأول من إفتتح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر والعزف، وكما أنه كان يتمتع بِقُدرة عظيمة على حفظ الألحان والأغاني، فيُقال إنه كان يحفظ عشرة آلاف مقطوعة موسيقية وأغانيها. من الجدير بالذكر أن (الصولفيج) هو دراسة لكل ما يتعلق بالغناء والعزف والألحان والإيقاع والأصوات الموسيقية والمقامات وطريقة كتابتها وقراءتها وتفسيرها وتحديد خصائص الأصوات الموسيقية، كالطبقة الصوتية والجهارة وتدريس الإملاء الموسيقي لتنمية الحس الموسيقي، وتقوية مهارات تحديد النغمات والتمييز بينها، وتسهيل تصنيف الألوان الموسيقية العالمية.
لم يكتفِ زرياب بالإبداع في المجال الفني والموسيقي فقط، بل ترك بصمته الواضحة كذلك في الحياة الإجتماعية والعادات اليومية للمجتمع الإسپاني، ليضع بذلك أساس المجتمع الراقي المتقدم والمتحضر، وأساس الإنسان المدني المُهذّب بِفعله وسلوكه، فهو من علّم الناس أناقة الملبس وتنويعه بين أوقات اليوم، صباحاً ومساءاً وبين الفصول الأربعة وتقلبات الجو المختلفة، كلِبس الثياب الخفيفة القاتمة الألوان في الربيع والملابس البيضاء في الصيف والمعاطف والقُبّعات المصنوعة من الفرو في فصل الشتاء.
زرياب هو الذي علّم المجتمع الإسپاني فن التجميل والعناية بالبشرة ونظافة الجسد والبدن، حيث يعد أوّل من إستخدم المساحيق والمُركبات لإزالة رائحة العَرَق. كما أنه يُعتقد أنه أول من إستخدم ما يشبه معجون الأسنان الآن في تنظيف أسنانه دون معرفة تلك المادة المُستعملة إلى الآن.
أدخل زرياب الى إسپانيا أطعمة كثيرة منها النقايا وهي من السمبوسك (كوليچە) المحشي بالفستق واللوز وأدخل للمطعم الإسپاني طعام الهليون (Asparagus) وهي بقلة لم تكن موجودة سابقاً في إسپانيا، وصنع نوعاً من الحلوى كانت تُسمى (زريابيه) فتحورّ إسمها بمرور الوقت الى (زلابيه). كما أجاد زرياب فن تنسيق الحدائق والمزهريات وإصطناع الأصص من الذهب والفضة التي زُيّنت بها قصور الأمراء والنبلاء.
كما أنّ زرياب أدخل لعبة الشطرنج الى إسپانيا، وهو صاحب مقولة (شاه مرد) أي (مات الملِك) والتي تُستعمل الى الآن في أوروپا وبقية أنحاء العالَم. (الشاه) في اللغة الكوردية تعني (ملِك).
قام زرياب أيضاً بإدخال قصّات وتسريحات شَعر مختلفة لِكلا الجنسَين، لم يكن يعرفها الشعب الإسپاني من قبل، بعد أن قام في البداية بِتجربتها على نفسه وأهله، فأعجب بها سكان إسپانيا عندما رأوا أنّ تلك القصّات والتسريحات الشَعرية تضفي الأناقة والجَمال على الإنسان.
حتى الطعام وآداب السفرة، لم تسلم من لمسات زرياب السحرية والإبداعية، فهو من علّم الناس إعداد مائدة أنيقة للطعام وتنظيمها، وكان يستخدم عدة انواع من المناديل أثناء الطعام منها لليد وآخر لِلفم ومنديل ثالث للعنق والجبين. وهو من إقترح إستخدام مناديل مُعطّرة للنساء وإستخدام أكواب وصحون من الزجاج بدلاً من تلك المصنوعة من المعادن لأنها أكثر أناقة وأسهل تنظيفاً. كما أنهه هو أول مَن إبتكر نظام الأكل على وجبات، كتقديم الشوربة والمقبلات أولاً وبعدها يتم تقديم الوجبة الرئيسية المؤلفة من اللحوم والسمك والطيور وغيرها، ليُليها في النهاية الحلوى والفواكه والمُكسّرات. كان زرياب أنيقاً حتى في طعامه، فكان يأكل بِهدوء ويمضغ الطعام جيداً ويضع الطعام في طرف واحد من الفم. وهو مَن أدخل أنواع عديدة من الفواكه والخضروات إلى إسپانيا التي إنتشرت منها إلى باقي أنحاء أوروپا.
هذه كانت سيرة رجُلٍ عبقري في مجال الموسيقى والفن ومختلف النواحي الاجتماعية، حيث يعدُّ زرياب مُبتكِراً لما يُسمى اليوم بـ “الإتيكيت”. كان رجُلاً ظلمه المجتمع الشرقي ليهتم به المجتمع الغربي ويستفيد من عِلمه وفنّه وتجربته الحياتية التي خدم بها البشرية جمعاء.