لا شك أن لأحداث الثاني عشر من آذار التي شهدها ملعب نادي الجهاد في مدينة قامشلو عام 2004 الأثر الكبير على أبناء كوردستان سوريا. إذ أن هذه الأحداث أدت الى سقوط عدد من الشهداء، والعشرات من الجرحى، وتم فيما بعد اعتقال الآلاف من شباب الكورد وتعذيبهم في سجون الدولة السورية، لذلك لا عجب أن الناس تحيي هذه الذكرى المؤلمة في الثاني عشر من آذار، هذا الشهر الذي أصبح شهراً كوردياً بامتياز، لما يحمله من أفراح وأتراح. يسرنا إدارة موقع وصفحة خوى بون نيوز أن نستذكر تفاصيل ذلك اليوم بإجراء اللقاءات مع شهود العيان والذين كانوا ضحايا الحادثة سواء كانوا جرحى، معتقلين، شهود عيان وغيرهم.
الأستاذ عبد الباقي يوسف الذي كان سكرتير حزب يكيتي الكوردي في سوريا في ذلك الوقت كان حاضراً وشاهداً على تلك الأحداث، وتتمة للقاء الذي أجري معه سابقاً نستذكر معه بعض التفاصيل التي جرت في الملعب وماذا فعلت الحركة السياسية الكوردية آنذاك.
خوى بون: الأستاذ عبد الباقي يوسف، هل لك أن تُخبرنا عن مشاهداتك في ملعب الجهاد بقامشلو خلال مباراة فريقي الجهاد والفتوة في آذار 2004؟ هل كنت حاضرًا في الملعب؟ كيف تصرفت القيادة السياسية آنذاك؟
عبد الباقي يوسف: بينما كنا عائدًين أنا والرفيق فؤاد عليكو من الريف الشرقي إلى مدينة قامشلو، وعندما أوصلته ونزل بالقرب من منزله تقدم نحوي أحد المواطنين يبدو كان يعرفني، وأخبرني عن أحداث تجري في الملعب البلدي بين مشجعي فريقي الجهاد الرياضي (النادي المحلي) وفريق الفتوة القادم من مدينة دير الزور. ناديت الرفيق فؤاد وتوجهنا نحو الملعب. ولكي نتمكن من مشاهدة ما يجري داخل الملعب، اتجهنا إلى منزل أحد الأصدقاء، ومن شرفة منزله استطعنا رؤية ما يجري داخل الملعب وما حوله. حقيقة كان المشهد مرعباً جداً، إذ أن ما كان يحدث لم يكن مجرد شجار بين مشجعي الفريقين، بل اعتداء عنيف من قبل أشخاص مسلحين بالعصي والحجارة، تدعمهم الأجهزة الأمنية والشرطة المدججة بالسلاح، على مشجعي نادي الجهاد العزل. لم يكن بيد مشجعي نادي الجهاد أي أسلحة في مواجهة الرصاص الحي القادم من الأجهزة الأمنية، ووابل الحجارة التي أمطروهم بها مشجعوا الفريق الضيف. من المؤلم طبعاً أن ترى قوى الأمن تطلق الرصاص الحي على المواطنين العزل من أهلك، من أبناء مدينتك، بينما يحمل آخرون جنازات شهدائهم وأجساد جرحاهم، خاصة عندما لا تملك أي قوة أو سلطة لوقف هذه المجزرة، وأنت تُدرك جيداً أنّ سلطة البلاد لا قيمة للمواطنين لديها، خاصة إذا كانوا كورداً. لم يكن بحوزتي سوى الهاتف الجوال، فحملته واتصلت مباشرة مع مديرة مكتب بي بي سي في دمشق المرحومة سلوى الأسطواني، وأخبرتها بما يجري في الملعب البلدي. كان ردها بسؤالي عما كنت مستعداً لإجراء مقابلة مباشرة مع بي بي سي عبر الهاتف، فأجبتها دون تردد بموافقتي. بعد دقائق، جرى الإتصال، وبدأتُ أنقل إليهم ما أشاهده وما سمعته من الناس الذين كانوا حولي، كما قدمت أحد المعارف، وهو صديق قديم يُدعى جميل عسكر، وكان قد سبقنا إلى المكان، وتحدث إلى بي بي سي أيضاً عما شاهده منذ البداية. بعد بي بي سي، اتصلتُ مع مراسلة إذاعة مونتي كارلو، وتم نقل الصورة من خلالها أيضاً إلى العالم الخارجي. بعد ذلك، أجريت اتصالات مع عدد من الأشخاص داخل السلك الدبلوماسي للدول الفاعلة على الساحة العالمية والتي كانت لدينا علاقات ودية معهم، وأخبرتهم بما يحصل في قامشلو، وعن استخدام القوى الأمنية للرصاص الحي ضد المدنيين بتوجيهات مباشرة من المحافظ سليم كبول الذي كان متواجداً في الملعب، وعن سقوط العديد من القتلى.
خوى بون: على مستوى حزبكم آنذاك – حزب يكيتي الكوردي في سوريا- وكما تفضلت، تواصلتم مع الإعلام العالمي لتغطية الأحداث الجارية حينه. ماذا فعلتم كحركة سياسية كوردية، وماذا كانت مواقف الأحزاب السياسية؟
عبد الباقي يوسف: بعد انتهاء الاشتباكات في الملعب، اجتمعنا نحن، عدد من أعضاء القيادة المركزية للحزب في قامشلو، لمناقشة الحدث. وفي المساء، عقدنا لقاءً مع ممثلي الأحزاب الوطنية الكوردية لمناقشة الحدث واتخاذ موقف مشترك ومناسب تجاهه. دار النقاش في الإجتماع حول كيفية التعامل مع الحدث وضرورة إصدار بيان سياسي يدين النظام والمحافظ. كما طالبنا بتشكيل لجنة تحقيق حول ما جرى، خاصةً وأن الأطراف المسؤولة لم تتدخل وهي ترى فريقاً من دير الزور قد مرّ بمدينة الحسكة رافعاً شعارات عنصرية وتمجّد برئيس النظام العراقي المخلوع صدام حسين، معرباً عن تضامنه مع النظام المخلوع في العراق. كما جاب الجمهور “الضيف” شوارع مدينة قامشلو، وهو يكرر عبارات مهينة لزعماء كورد عراقيين، مثل المرحوم جلال الطالباني ومسعود البارزاني. لم يتخذ مسؤولوا المحافظة، بما فيهم المحافظ، أي إجراءات ضد الفريق الضيف ومشجعيه. ولعدم ثقتنا بالنظام بإجراء تحقيق نزيه وعادل وشفاف، طالبنا نحن ممثلي بعض الأحزاب بضرورة إجراء تحقيق دولي في الحادث. بعد نقاشات مطولة كان هناك موقفين متناقضين من مسألتين: المسألة الأولى كانت تتعلق بنوعية التحقيق الذي يجب أن يتضمنه البيان، والثانية كيفية تشييع جنازات الشهداء. كان موقف أغلبية الأحزاب يختصر على الدعوة إلى تحقيق عادل من قبل الحكومة وترفض الدعوة إلى تحقيق دولي بالحادث، وفيما يخص تشييع الجنازات، فقد كان موقفهم بأن تقوم كل عائلة بتشيع جنازات ضحاياهم بالشكل الذي يريدونه، وأن تكون مشاركة الأحزاب والقوى السياسية كل في منطقة تواجده، وبالتالي لا داعي لأي نداءات للشارع الكوردي بالمشاركة في التشييع. موقف الأقلية أكد على عدم الثقة بالنظام وطالب بأن يكون التحقيق دولياً. فيما يخص تشييع الشهداء، تمت المطالبة بأن يتضمن البيان نداء إلى الجماهير يدعوها للمشاركة في تشييع جنازات الشهداء تقديراً لتضحياتهم من أجل قضية شعبه، ومع إصرار الأقلية على هذه المطالب، ومع الأخذ بعين الإعتبار مزاج الشارع الكوردي قبل طرحها.
خوى بون: القيادة السورية طالبت بلقاء مع الحركة السياسية الكوردية، لماذا رفضت الحركة السياسية اللقاء وماهي سبب رفضكم؟ ماذا قررتم بشأن تشييع الشهداء وكيف حضر المئات من الآلاف من الكورد للمشاركة في التشييع؟
عبد الباقي يوسف: بعد إقرار البيان ونوعية الشعارات واللافتات، أخبر سكرتير أحد الأحزاب أن محافظ الحسكة بعث إليه مندوب يريد أن يلتقي مع وفد من قيادات الأحزاب الكوردية. رفضت الدعوة لكون المحافظ بشخصه كان طرفاً في الجريمة، وكان بإمكانه فض المشاجرة منذ البداية خاصة وهو كان داخل الملعب وهو أول من أطلق الرصاص وأعطى الأوامر للقوى الأمنية لقتل المواطنين الكورد.
في نفس الليلة تمكنا من إيصال الموقف الى معظم القرى والمدن الكوردية وهذا يعود فضله إلى تواجد المنظمات الحزبية في تلك المناطق وأهبتها واستعدادها، بالإضافة، ربما، لتأثير اهتمام الإعلام العالمي وبشكل خاص إذاعة بي بي سي ومونتي كارلو. ساهمت هذه التغطية بنشر الخبر بشكل كبير. في يوم 13 آذار احتشدت الجماهير في شوارع قامشلو. قدِم الكثير من البلدات المحيطة أيضاً، مثل ديرك وتربسبي وعامودا ودرباسية وسري كانيي، بالإضافة الى القادمين من مدينة الحسكة والأرياف. حقيقة كانت مظاهرة كبيرة جداً. أنا شخصياً ما كنت أتصور أن كل هذه الجماهير ستهب للمشاركة، وإن دل هذا على شيء فهو يدل على مدى الشعور والإحساس المشترك ومعرفة الذات لأبناء شعبنا واستعداده للتكاتف، والتضحية من أجل قضية شعبه العادلة، والتزامه بها رغم الظلم والمعاناة. لقد أبدى الشارع الكوردي استعداده للوقوف خلف قياداته، بالرغم من اضطهاد النظام. قدّر الكثيرون المظاهرة بالمليونية لكن حقيقة لم يكن العدد بهذا الحجم لكن كانت تقدر بهذا الشكل لأن الشعب السوري خلال عدة عقود لم يشهد مظاهرة بهذا الحجم وبالتالي حسب التقديرات كانت تقدر بمليون، هذا ما سمعته شخصياً من الكثيرين .
خوى بون: في اليوم الثاني وعند تشييع الجنازات، والتي وصفت بالمليونية، وقع الكثير من الشهداء والجرحى نتيجة إطلاق الرصاص الحي من قبل الأجهزة الأمنية. ما الذي حصل؟ ألم تكن التظاهرة سلمية؟ كيف تصرفتم كقيادة سياسية، وخاصة المشاركون في التشييع؟
عبد الباقي يوسف: كان برنامج تشييع الشهداء بأن يبدأ من جامع قاسمو في الحي الغربي من مدينة قامشلو ا ليتجه بعد ذلك، ومن خلال الشارع العام في وسط المدينة، أولاً الى مقبرة قدور بيك ومن ثم تدفن بقية الجنازات في مقبرة الهلالية. رغم الحشود الكبيرة جرت المظاهرة بشكل سلمي، تتقدمها معظم قيادات الأحزاب الكوردية، والمثقفون والكتاب، والوجهاء، وكوادر و أعضاء الأحزاب. بشكل عام اشترك في التظاهرة جميع فئات الشعب من دون استثناء. تقيد المتظاهرون بالشعارات المقررة باستثناء بعض الشباب المتحمسة أحياناً، والذين أطلقوا شعارات منددة بالنظام، خاصة عندما مروا من ميدان السبع بحرات في وسط المدينة. بعد قليل من وصول الصفوف الأولى إلى المقبرة اتصل معي كل من الرفيقين محمد مصطفى وإبراهيم برو ليخبروني بأن نفر من الشباب استمروا بالسير متجهين بالجنازات نحو حي العنترية. طالبوا بالمساعدة، وطلبوا من بعض القيادات ذوي الوجوه المعروفة أن يأتوا ليعيدوا توجيه الجنازات نحو المقبرة، وإلا ستطول المسافة كثيراً. في هذه اللحظة، كان بالقرب مني كل من خير الدين مراد، سكرتير الحزب اليساري الكوردي، والمرحوم إسماعيل عمو، سكرتير حزب الوحدة الكوردي. ناديتهم وأخبرتهم بالحادث، والتفت إلي قيادات أخرى وأخبرتهم بالحادث وطلبت منهم الإسراع للإلتحاق بالجنازات. توجهتُ فوراً نحو باب المقبرة، وقد رافقني شباب من أقربائي، كل من خليل أحمد حاج يوسف، وكادار برجس حاج يوسف وعبد الباقي أحمد حاج يوسف. عند باب المقبرة، وقبل أن نخرج بأمتار، وضع غازي برو يده على كتفي وقال: “هل ستذهب لوحدك؟” يبدو أنه عندما ناديت، خرج معي. جاوبته بأن بعض القيادات قد سبقونا في الخروج. فرد: “لا يوجد أي واحد منهم لا أمامنا ولا خلفنا” وعاد. خرجنا لنلحق بالجنازات، ولم يكن بحوزتنا سيارة لأننا تركنا السيارات بالقرب من جامع قاسمو في هذه اللحظة، وصل شاب في شاحنة من نوع كيا. ناداه ابن خالي، وكان يعرفه. فسأل: “إلى أين تريدون أن تذهبوا؟ السيارة في الخدمة”. استقلنا السيارة للإلتحاق بالجنازات. في الطريق، وعند دائرة الجمارك، كان عناصر الأمن قد دخلوا في البناية وصاروا يطلقون النار على المتظاهرين. اضطررنا على ترك الشارع الرئيسي. في البنايات المجاورة لدائرة الجمارك، كان حشد من المتظاهرين يحتمون بالبنايات من رصاص الأمن، بينما كان هناك شباب يردون على قوى الأمن بالحجارة. هناك، شاهدت بقعة دم كبيرة. أخبروني عن استشهاد شباب هناك. خاطبتُ الشباب هناك وطلبت منهم الكف عن المواجهة بالحجارة، والقيام بمساعدة الجرحى والإلتحاق بدفن الشهداء.
بينما كنتُ هناك، جاءني خبر عن حدوث مواجهة في حي قناة السويس بالقرب من مطحنة قامشلو. فتوجهنا مباشرة إلى هناك، حيث شاهدنا حشداً من الجماهير مجتمعة. تقدم نحوي خورشيد عزيز داليني وقال: “يجب أن تكف من السير في هذا الإتجاه، فهناك إطلاق رصاص من قبل الأمن المتمترسين في المطحنة. أرجو أن توصل صوتك إلى الشباب المتحمسين من خلال مكبرة مأذنة الجامع المجاور والقريب من المطحنة” عندها، توجهتُ إلى الجامع وخاطبتُ الشباب المحتشد والمتحمس. قلتُ لهم: “أيها الشباب، قلبنا معكم، واستشهادكم يؤلمنا. لقد قدمتم التضحيات بما فيه الكفاية. أعرفكم أنكم مستعدون لتقديم تضحيات أكثر، لكن كونوا على علم بأنكم قد رفعتم شأن القضية العادلة لشعبكم إلى حد السقف في الظرف الحالي ، لذلك أرجو الكف عن هذه المواجهة غير المتكافئة. أرجو أن تحافظوا على أرواحكم ودمائكم. شعبنا وقضيتنا ستحتاجه في قادم الأيام. أرجو أن تكفوا عن مهاجمة المطحنة بهذا الشكل.” بعد الحادث بأيام، أخبرني السيد خورشيد داليني أنه بعد مغادرتي للموقع بدقائق، جاءت سيارات أمنية وأطلقت الرصاص على المحتشدين وفروا. وقد أصيب هو بطلقة نارية، ولم يذهب إلى المستشفى حتى لا يعتقل واكتفى بالعلاج في البيت.
في طريق الرجعة، لم تكن معنا سيارة ولم نجد سيارة لنقلنا، لذا سرنا على الأقدام. وفي شارع قنواتي (الريجي)، التحقنا بموكب الجنازات المتجهة نحو مقبرة الهلالية. ولشدة التعب الذي بدا على وجهي، أصر الرفاق على أن أركب السيارة التي تحمل الجنازات، حيث أركبوني إلى جانب السائق. أتذكر أن أغلب رفاق القيادة، بينهم حسن صالح وفؤاد عليكو كانوا مع الجنازات، لم أشاهد أي قيادي آخر من الأحزاب الكوردية هنا، أقصد قيادات الصف الأول. كما رأيت الشهيد مشعل التمو عند مدخل كراج قامشلو، بالقرب من جسر نهر الجقجق. استهدفت السيارة التي كانت تنقلنا بطلق ناري كسر زجاج السيارة، لكن لحسن الحظ لم تصب أحداً. جُرح السائق في وجهه من تطاير شظايا زجاج السيارة، كما جُرحت يدي اليسرى ببعض هذه الشظايا، ولكن الجروح لم تكن بليغة. توقف المسير عند بداية جسر نهر الجقجق بسبب تهديدات القوات الأمنية التي تمركزت في بناء البلدية، وأغلقوا الشارع مشهرين السلاح في وجه المتظاهرين. كان كل من فؤاد عليكو ومشعل تمو والمحامي محمد كاسو في المقدمة عندما أطلق الأمن الرصاص. فوراً، نزلت من السيارة وتوجهت نحو قوات الأمن وناديتهم بضرورة فتح الطريق أمامنا، وإلا ستحدث كارثة كبيرة إن لم يسمحوا بالمرور. في منتصف الجسر، طلبوا مني التوقف لحين إعطائي جواب. ذهب الشخص الذي تكلم معي نحو بناية البلدية وبعد دقائق عاد وقال: “سوف نسمح لكم بالمرور شريطة أن لا تمرّوا من وسط المدينة حينها، ناديتُ المحتشدين بالتحرك وأخذنا مسار حزام المدينة نحو مقبرة الهلالية لدفن شهداءنا.
خوى بون: في هذه المعمعة وسقوط ضحايا من المدنيين والتغطية الإعلامية العالمية للأحداث ,خاصة وأن صدى الحدث امتد لباقي المدن الكوردية السورية, ألم تتواصل معكم الأحزاب والشخصيات المعارضة في سوريا, ماذا كان موقفهم؟
عبد الباقي يوسف: في ذلك اليوم وبحدود الساعة الرابعة مساءً، اتصل بي المحامي ممتاز الحسن وأخبرني عن وجود وفد من المعارضة الوطنية يريدون زيارتي. كان الوفد يتكون من ممثل لحزب العمل الشيوعي، وأحد السجناء السابقين، محسوب على الجناح اليميني لحزب البعث، أفضل عدم ذكر أسماءهم. يؤسفني أن أقول إنّ الوفد هذا، من خلال حديثه، لم يختلف في ذهنيته عن ذهنية النظام، خاصة السجين السابق المذكور،ما سبّب لدي خليط من الإحباط وخيبة أمل هو أن أرى شخصاً قضى ثمانية أعوام من عمره في سجون النظام، لكنه يشارك النظام نظرته الإقصائية تجاه قضيتنا، زيادة على ذلك، اتهمنا بأننا كنا قد خططنا مسبقاً لهكذا مظاهرة، وإلا كيف احتشد نحو مليون إنسان خلال ساعات. في الحقيقة، كان هذا اللقاء تذكيراً بحقيقة كانت متبلورة لدينا كممثلين عن القضية الكوردية في سورية، وهي أنه ذهنية الجزء الأكبر من المعارضة السورية لا تختلف عن ذهنية النظام وحزب البعث تجاه الشعب الكوردي واتجاه حل القضية الكوردية في سوريا. طبعاً هنا استثني المحامي ممتاز الحسن، الذي أبدى عن موقف مختلف جداً يثنى عليه. هنا أقول إنّ معظم فصائل المعارضة السورية، من ناصريين، والإخوان المسلمين، وأجنحة من الحزب الشيوعي السوري، والوحدويين العرب والإشتراكيين العرب، كلهم ينظرون إلى الكورد كـ “إسرائيل ثانية” يريدون تشكيل دولة على حساب الشعوب العربية. بالنسبة لهكذا جماعات، تعتبر كل الأراضي التي وصلت إليها الغزوات العربية أراضي عربية، وأن الشعوب والأقليات يجب أن تقبل الإنحلال داخل الثقافة العربية، وألا تطالب بأيّة حقوق قومية. لا تريد—أو ربما لا تستطيع—هذه العقلية أن تستوعب أن ضخامة المظاهرات إن دلت على شيء، فهي تدل على مدى المعاناة. إن الغاية من تصوير هكذا حراك عفوي على أنه نتيجة لتخطيط مسبق ومقصود هي التهرب من الإعتراف بشرعية هذه المطالبات، أو ربما أسوأ من ذلك. فمن المعهود من الحركات العنصرية الشعبوية أنها تلجأ الى “التأطير المؤامراتي” لإسكات الأصوات المخالفة لها، وحتى جردها من إنسانيتها وبالتالي استباحة ممتلكاتها.
خوى بون: حصلت أحداث متسارعة بعد اليوم الأول، خاصة هجوم الميليشيات المحسوبة على النظام على محلات ودكاكين الكورد ونهب وسرقة ممتلكاتهم. بالتزامن مع هذه الأحداث كانت هناك مفاوضات بينكم وبين الحكومة السورية، ماذا كان رد الفعل من الطرفين – وهنا أقصد رد الفعل منكم كحركة سياسية والجماهير من خلفكم ورد فعل النظام؟
عبد الباقي يوسف: في اليوم الثاني، امتدت المظاهرات إلى معظم المدن والبلدات الكوردية في الجزيرة، مثل ديريك، جل آغا، تربسبي، عامودا، درباسية، مدينة الحسكة، وسري كانيي. في عامودا عندما أغلق النظام الطريق كي لا يشاركوا مع جماهير قامشلو، سيطر المتظاهرون على معظم المؤسسات، بما في ذلك مقر حزب البعث، وأسقطوا تمثال حافظ الأسد. في الدرباسية أيضاً، سيطروا على جميع المؤسسات، حيث هرب مدير الناحية إلى الحسكة. في الحسكة وسري كانيي، حركت الأجهزة الأمنية ميليشيات البعث، وعشائر عربية لمهاجمة المناطق والمحلات التجارية الكوردية وقاموا بنهبها. في اليوم الثالث، بدأت المظاهرات في كوباني. وفي الحسكة، اشتد وقع الصدامات وسقط العديد من الشهداء.
قامت قبائل عربية وأناس من دير الزوروالمقيمين في الحسكة بمهاجمة الأحياء والمحلات التجارية الكوردية وقاموا بالنهب والسلب. حدث كل ذلك بدفع وحث ومساندة من الأجهزة الأمنية وميليشيات حزب البعث،في هذا اليوم بالذات. اتصل معي سكرتير السفير الفرنسي، السيد بيير غلاسمان، ليدعوني للذهاب الى دمشق للقاء بمجموعة من الدبلوماسيين الأوربيين الذين يرغبون باستضافتي والاضطلاع على ما يجري.
لم أذهب بنفس اليوم بسبب الأحداث في الحسكة، وكانت المفاوضات جارية في قامشلو بين اللجنة الأمنية التي بعثها النظام برئاسة هشام بختيار، وعضوية اللواء محمد منصورة وآخرين. حضر فؤاد عليكو لقاء لجنة الحوار كممثل عن حزب يكيتي. التقينا في المساء وتناقشنا حول الوضع الجاري في الحسكة ورأس العين آنذاك. طلبتُ منه أن يبلغ الوفد الحكومي فوراً قبل اللقاء بأننا لا نستطيع متابعة المفاوضات قبل أن يتم إيقاف الإعتداءات على الكورد في الحسكة والمناطق الأخرى ونهب محلاتهم من قبل بعض العشائر العربية المدفوعة من قبل الأجهزة الأمنية وميليشيات حزب البعث. في صباح اليوم التالي، كانت المظاهرة في كوباني قد بدأت أيضاً. بعد وقت قصير من موعد لقاء الوفدين، اتصل معي الرفيق فؤاد وأخبرني بأنه نقل الموقف حرفياً إلى الوفد الحكومي، واللواء محمد منصورة تكلم مع مسؤول في الحسكة وأمر بإيقاف تلك العمليات بالقول “يجب أن توقفوا أولئك الكلاب”، بحسب ما نقل إلي من الرفيق فؤاد وقتها. بعد هذا الإتصال بنحو نصف ساعة، اتصلت مع الرفيق سليمان أوسو واستفسرت عن الوضع في الحسكة، وعما إذا توقفت عمليات النهب والسلب والإعتداءات على الكورد. أكد أن تلك الإعتداءات وعمليات النهب مستمرة. لم اكتفِ بكلام سليمان فقط، فاتصلت بالصديق آزاد علي، وهو كان يعيش في حي آخر في الحسكة، وسألته نفس السؤال، وهو بدوره أكد على استمرار الإنتهاكات. بعد نحو ربع ساعة من اتصالي الأول، عاودت الإتصال بهم من جديد، عندها أخبروني بأن تلك العمليات بدأت بالتوقف، وأن الميليشيات بدأت بالإنسحاب. بعدها، كلفت أحد الرفاق بقطع تذكرة سفر لي إلى دمشق.
خوى بون: هل سافرت إلى دمشق للقاء بالدبلوماسيين الأجانب؟ بماذا أخبرتهم وماذا كانت مواقفهم؟
عبد الباقي يوسف: سافرتُ إلى دمشق بعد الظهر، وكانت قد اندلعت الإنتفاضة في حلب وعفرين. في الطريق، اتصلت بي مراسلة من بي. بي. سي قادمة من لبنان وهي في طريقها نحو حلب للمجيء إلى قامشلو. أخبرتها بأنني في طريقي إلى دمشق، وأن الأفضل لها أن تذهب إلى حلب وعفرين حيث اندلعت انتفاضة هناك، وأن قامشلو الآن شبه مستقرة. عندها، طلبت مني أن أزوّدها بأرقام بعض الأشخاص الذين يستطيعون مساعدتها هناك. في حلب وعفرين، وعلى مدار عدة أيام، جرت مظاهرات حاشدة وحصلت صدامات مع الأجهزة الأمنية عندما حاولت قمع المتظاهرين. وقد سقط العديد من الشهداء بينهم نساء. كما قام بعض شباب الكورد بقتل عنصر من الأمن عندما اعتدى على إحدى المتظاهرات الكرديات.
في لقائي مع الدبلوماسيين الغربيين، وضعتهم في صورة الأحداث التي جرت والجارية في المدن والبلدات الكوردية على طول شمال شرق سوريا، وفي المدن الرئيسية كـ حلب ودمشق. أخبرتهم أن القوى والشارع الكوردي يطالبون بإجراء تحقيق عادل لما جرى في الملعب البلدي بقامشلو، وأنهم لا يثقون بوعود النظام، فهو لا يستطيع القيام بأي تحقيق شفاف وعادل، والذي يفقده القدرة على أن يقوم بذلك لكونه متورطاً بشكل رئيسي. وكذلك أوصلت موقف الشارع الكوردي والحركة الكوردية، المطالب بإيجاد حل عادل لقضية الشعب الكوردي في سوريا، وإنهاء الإضطهاد.
حدثتهم مثلاً عن سكوت الأجهزة الأمنية عن إدخال الجمهور “الضيف” العصي والحجارة الى داخل الملعب والإعتداء بها على الجمهور المستضيف كما أنني حدثتهم عن دور المحافظ سليم كبول، الذي بدلاً من إعطاء الأوامر بفض المشاجرة، أعطى أوامر بإطلاق النار، وكان هو أول من أطلقها من مسدسه. وضعتهم أيضاً في صورة المسيرة السلمية لتشييع الجنازات في قامشلو، وطريقة تعامل الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين، ليس في قامشلو وحدها، بل في معظم المناطق التي جرت فيها المظاهرات السلمية، بالإضافة الى النهب والسلب للمحلات ومتاجر الكورد، وسقوط العشرات من الشهداء، ومئات الجرحى، حيث لم يستطع الكثير منهم من تلقي العلاج في المستشفيات لأن أجهزة النظام تقوم باعتقال كل جريح فيها، حتى ولو كانت حادثة مرور.
لقد طالبتهم بالتحرك، وأن تتدخل دولهم للضغط على النظام، للحد من الإنتهاكات، والدعوة إلى إيجاد حل ديمقراطي للقضية الكوردية في سوريا، حتى تتوقف أسباب هذه التوترات. لقد وعد كل من التقيتُ بهم، وأبدوا التفاهم لما نحن فيه، ووعدوا بأن ينقلوا طلبنا إلى المعنيين في هذا الشأن.
خوى بون: برأيكم هل كانت أحداث الملعب صدفة أم كان مخططاً لها من قبل النظام السوري؟ ماذا كان الهدف من إثارة هذه الأحداث برأيكم؟
عبد الباقي يوسف: بِتصوري، ما جرى في ملعب قامشلو في ذلك اليوم لم يكن محض صدفة، إنما كان عملاً مبرمجاً من قبل النظام. وإلا، كيف لمشجعي فريق رياضي ينطلق من دير الزور ويمر من مركز محافظة الحسكة، وهو يأتي إلى مدينة قامشلو بالصورة التي تحدثنا عنها للتو، ولم يتحرك المسؤولون في المحافظة ساكناً؟.من ناحية أخرى، لم يتم تفتيش مشجعي هذا الفريق عند دخولهم الملعب. فقد أكد شهود عيان عديدين أن جماهير النادي الضيف أدخلت العصي والحجارة معهم إلى مدرجات الملعب. وإلا من أين جاؤوا بهذه العصي وتلك الحجارة التي استخدموها ضد مشجعي فريق الجهاد؟ كان المحافظ موجوداً وهو الذي أعطى أوامر إطلاق النار على جماهير فريق الجهاد.
كنا في قيادة الحزب نتوقع أن نتعرض لمؤامرة يقوم بها النظام لضرب الحزب، وربما أحزاب كوردية أخرى، وذلك بسبب السياسة النضالية الجديدة التي انتهجها الحزب، وذلك بنقل المظاهرات والإعتصامات ونشاطات أخرى إلى قلب العاصمة دمشق. ففي 10/12/2002 قاد الحزب مظاهرة أمام مجلس الشعب السوري، ووزّع الرفاق بياناً سياسياً على المارة أمام البرلمان. وفي يوم الطفل في شهر حزيران عام 2003، أقيمت مسيرة لأطفال الكورد متجهين نحو المنظمة الأممية اليونيسيف بهذا الخصوص، وشارك مع يكيتي ثلاث أحزاب كوردية. وفي نفس العام، جرت العديد من هذه النشاطات. فمثلاً، بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان من نفس العام، جرت مظاهرة كبيرة في ساحة السبع بحرات، شاركت فيها إلى جانب العديد من الأحزاب الكوردية نحو 16 حزباً ومنظمة سورية. ناهيك عن اهتمام الإعلام العالمي بهذه النشاطات، التي أحدثت فجوة في جدار الخوف الذي بناه النظام البعثي خلال أربعة عقود من حكمه الدكتاتوري.
في أول اجتماع للجنة السياسية المنتخبة للحزب بعد المؤتمر الثالث، والمنعقد في بداية عام 2004، نبهت الرفاق عن وجود مخاوف جدية من أن ينتقم النظام من الحزب، لذا يتطلب توخي الحذر. خاصة بعد تبدد مخاوف النظام البعثي في سوريا من إسقاطه، بعد اكتفاء الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش بإسقاط نظام صدام حسين في العراق.
حسب بعض المعلومات التي كانت تتسرب أثناء تحشد قوات التحالف الدولية بقيادة أمريكا منذ بداية عام 2002، كانت تقول إن النظام في دمشق أيضاً مستهدف من هذه الحملة. في أواخر شهر آب من عام 2003، ذهبتُ إلى مدينة السليمانية أنا والرفيق المرحوم إسماعيل حمي، بناءً على دعوة من المرحوم جلال الطالباني، قبل أن يصبح رئيساً للعراق. في لقاءاتنا هناك واللقاءات مع قيادات العديد من الأحزاب الكوردستانية، إن كانت في السليمانية أو أربيل، سمعنا أحاديث شبه مؤكدة بأن الرئيس جورج دبليو بوش تراجع عن ضرب النظام السوري بسبب تدخل الحكومة الإسرائيلية ومخاوفها من حال سقوط دمشق أن تجري فوضى على حدودها.
هنا لا بد من ذكر شيء آخر لايضاح الصورة للقارئ عن الأوضاع في تلك الفترة. في شهر حزيران من عام 2003، كنتُ مع زميل مهندس ينتمي لحزب البعث، نرتشف القهوة. سألته عن أسباب تراجع مركزه في الدائرة التي يعمل فيها، إلا أنني تفاجأت بدرجة وشكل تفاعله مع سؤالي، حيث بدى كطنجرة ضغط أزيل غطاءها على عجل. فقال بما معناه “كانوا في السابق يقولون يعتبروننا (أي أجهزة النظام وحزب البعث) نحن المسيحيين والمردلية عرب أقحاح، واليوم أصبحنا غربتلية (أي غرباء بحسب اللهجة المحلية).” في هذا اللقاء، ذكر لي أنه بعد المظاهرة التي كنا قد قمنا بها كحزب يكيتي أمام مجلس الشعب في أواخر عام 2002، جاء أحد أعضاء القيادة القطرية إلى قامشلو بناءً على دعوة من شعبة الحزب هنا. كان هذا الزميل المهندس حاضراً في ذلك الإجتماع وروى لي بأن أحد الحاضرين في ذلك الإجتماع استفسر عن سبب سماحهم (أي النظام) لحزب كوردي بالقيام بمظاهرة أمام مجلس الشعب. فكان جواب الأخير بالقول “ما كنا نريد أن نؤزم وضعنا، هناك أيادي قد دفعهم نحونا، وإلا كنا سحقناهم كما تسحق برغوثه.” هنا أود التأكيد على عدم وجود أي مخطط من هذا القبيل، وأن كل ما في الأمر هو أننا كحزب توصلنا لنتيجة بأنه لا بد من تغيير طرق النضال. فبعد انتخابي لسكرتارية الحزب، وخلال نحو سنة ونصف، لم نستطع في القيادة تحريك القضية الكوردية في سوريا، رغم نشاطاتنا في اللقاء مع القوى السورية، والإعلام، ومع الكثيرين من الدبلوماسيين الأجانب في دمشق. في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية، قيّمتُ الوضع في سوريا فيما يخص بالقضية الكوردية كـ “المستنقع المائي الراكد، ولتحريكها يتطلب منا إلقاءها بحجر كبير”. وهنا اتفقنا بالإجماع في القيادة بضرورة القيام بفعالية في العاصمة.
بتصوري، العامل الآخر الذي دفع النظام للقيام بعمله هذا هو لامتصاص نقمة المتعصبين والشوفينيين من القوميين العرب السنة بشكل خاص، بعد سقوط نظام البعث في العراق، والذي كان محسوباً على السنة، وبقاء النظام في دمشق متفرجاً من دون تقديم أية مساعدة. من ناحية أخرى، مصادقة مجلس الحكم الإنتقالي في العراق عام 2003 على الدستور المؤقت ليمثل نواة الدستور الدائم،والذي أقر بأن العراق دولة اتحادية، كما أقر بأن تكون كوردستان العراق إقليماً فدرالياً. خطط النظام لهذا العمل الإجرامي حيث ذهب نتيجته نحو 40 شهيداً ومئات الجرحى، ونحو ستة آلاف موقوف ومعتقل، ناهيك عن الأضرار التي لحقت بالعديد من المؤسسات. فمثلاً قام العديد من الفاسدين الموظفين لدى مؤسسات الدولة بإشعال النار فيها بهدف التغطية على سرقاتهم، مثل مستودعات العلف في قامشلو ومؤسسة المحروقات في الحسكة، ومن ثم ألقوا التهم على الشباب الكورد.
خوى بون: بعد كل هذه الأحداث الساخنة واللقاءات مع البعثات الدبلوماسية وامتداد التظاهرات المتضامنة مع الإنتفاضة إلى بعض الدول الأوروبية، ماذا كان موقف الشارع السوري عامة والأطراف المعارضة خاصة؟
عبد الباقي يوسف: بالنسبة لموقف الشارع السوري من الإنتفاضة الكوردية في ذلك الحين، يمكن إجماله في موقف ما كان يسمى بالمعارضة. من خلال وفودها التي زارت قامشلو والتقت مع ممثلي الحركة الكوردية، إن كان التجمع الوطني الديمقراطي، أو منظمات مجتمعية، وبينهم شخصيات مستقلة، لم يختلف مواقفهم كثيراً عن مواقف النظام.. دائماً كانوا يحاولون ربط الإنتفاضة مع الأحداث التي جرت في العراق، وكأن هناك إيماء من الدول الغربية للدفع بالكورد للقيام بمثل هذه الإنتفاضة، لذلك كانوا متوجسين جداً منها.
حقيقة، كانت الإنتفاضة الكوردية كبيرة جداً، وأدت إلى نتائج مهمة أيضاً، منها إعطاء صورة حقيقية عن وجود وحجم الشعب الكوردي، إن كان على المستوى السوري أو العالمي. فضح هذا الشيء ادعاءات النظام ومحاولاته المستمرة بتقزيم الوجود الكوردي، ومدى قدرته على تقديم التضحيات، ومساندة الكورد لبعضهم من أجل التحرر والحصول على حقوقهم المشروعة. أحدثت الإنتفاضة تحولاً كبيراً، إذ هزّت النظام بشكل لم تستطع الحركة الكوردية تحقيقه خلال عدة عقود.
تهجم الكثير من الكورد، خاصة المتواجدين في أوروبا، الحركة الكوردية واتهموها بالجبن وأنها لم تستطع أن تقود الإنتفاضة وإلا لامتدت إلى الشارع السوري ولأحدثت في كل سوريا ثورة ضد النظام الإستبدادي في دمشق، وغير ذلك من الإتهامات. لكن في الحقيقة، هؤلاء بتصوري كانوا بعيدين عن الواقع السوري في ذلك الحين، ولم يستطيعوا قراءة اللوحة بشكل سليم ومدى ارتباط النظام في دمشق مع المؤسسات الغربية، بما فيه إسرائيل. هذا لا يعني بأنني أتجاهل أو أريد أن أخفي بعض النواقص والتقصير، والأخطاء والمواقف لبعض الأحزاب الكوردية، بما فيه حزب يكيتي. فقد كشفت الثورة السورية عام 2011 الكثير من الحقائق التي استطاعت أن تسلط الضوء على مدى تعقيد الحالة السورية. فبالرغم من اتساع الثورة لتشمل أكثر من 85% من مساحة سوريا وشعبها، ورغم الدمار الذي قام به النظام ضد شعبه ومدنه وبلداته، إلا أن المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية لم تقم بواجبها بشكل جدي من أجل الدفع نحو تغييرات جوهرية في نظام الحكم في سوريا.