عبدالباقي اليوسف
يشهد الصراع السوري تصعيدًا حادًا، حيث تتوسع رقعة المعارك وترتفع وتيرة العنف بين الفصائل المختلفة. هذا التصعيد يهدد بإعادة سوريا إلى نقطة الصفر، مما يعقد المشهد الإقليمي والدولي بشكل كبير. مع سيطرة هيئة تحرير الشام، المصنفة كمنظمة إرهابية، على مناطق واسعة في شمال غرب سوريا، بما في ذلك حلب وإدلب، عادت الأزمة السورية إلى واجهة الأحداث. تتهم الأطراف المتصارعة بعضها البعض بالمسؤولية عن هذا التصعيد، مما يزيد من تعقيد الأزمة.
يتهم النظام السوري كلًا من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا بالمسؤولية عن التصعيد الحالي، بينما تلقي إيران، حليفة النظام، باللائمة على أمريكا وإسرائيل فقط، متجنبة توجيه الاتهامات المباشرة لتركيا بهدف الحفاظ على قنوات التواصل الدبلوماسي. وتبرر إيران ذلك بزعم أن تركيا وقعت في فخ نصبه لها الغرب. من جانبها، تنفي تركيا أي دور لها في هذا التصعيد، متهمة النظام السوري برفض الحوار والمساعي السلمية لحل الأزمة. أما الولايات المتحدة، فقد ردت على اتهامات النظام وإيران، مؤكدة أن النظام السوري هو المسؤول الأول عن الأزمة لرفضه تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي، خاصة القرار 5422 .
وسط تبادل الاتهامات المتبادلة بين الأطراف المعنية بالأزمة السورية، يصبح تحديد المسؤولية عن التصعيد الأخير أمرًا بالغ الصعوبة. فكل طرف يحمل الآخر المسؤولية، مما يخلق صورة معقدة ومتشابكة. ومع ذلك، فإن تعنت النظام السوري في قبول الحلول السياسية المقترحة، ورفضه تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي، يجعله يحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. لكن من غير المرجح أن يكون النظام وحلفاءه قد أرادوا تصعيد الأزمة في هذا التوقيت، بالنظر إلى انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، وإيران بصراعاتها المتعددة، والولايات المتحدة بانتقال السلطة والملفات الدولية الملحة.
تتركز الأنظار والتهم بشكل كبير على تركيا في ظل الأحداث الأخيرة بسوريا، وهذا ما ذهبت إلية صحيفة بوليتكو الأمريكية اليوم 4 ديسمبر بشكل مكشوف. فبعد أن طلب الرئيس التركي مرارًا إصلاح العلاقات مع نظيره السوري، خاصة قبل الانتخابات البلدية والتي خسر فيها حزب آردوغان امام حزب الشعب التركي، اشترط الأسد انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية كشرط مسبق لأي تقارب، وهو الشرط الذي تدعمه روسيا. وفي آخر اجتماعات أستانا، حمل ممثل الرئيس الروسي تركيا مسؤولية استمرار الأزمة بسبب رفضها الانسحاب، مما يزيد الضغوط على أنقرة للرضوخ لمطالب النظام السوري.
عند تحليل الدوافع الكامنة وراء تحركات تركيا في سوريا، لا يمكن تجاهل الأبعاد الاستراتيجية. فبالإضافة إلى الدوافع الداخلية، تسعى تركيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة، فلميثاق الملي التركي ما يزال يعتبر ولاية حلب وولاية الموصل أراضي تركية، وتقويض القضية الكوردية في العراق وسوريا، بذريعة تأمين حدودها الجنوبية، والحفاظ على نفوذها الإقليمي. وقد استغلت تركيا الأزمة السورية لتحقيق هذه الأهداف إلى جانب اهداف اخرى لسنا بصددها، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها.
تتجاوز أسباب تحرك تركيا في سوريا الأبعاد الظاهرة، إذ تسعى إلى تحقيق أهداف متعددة. فمع تولي ترامب الرئاسة الأمريكية، أرادت تركيا استغلال هذه الفرصة لتقوية علاقتها بالولايات المتحدة وإبرام صفقات تخدم مصالحها، لا سيما على حساب القضية الكوردية. فقد سعت تركيا إلى القضاء على الإدارة الذاتية في شمال سوريا، وترك يد مرتزقتها للعبث في المنطقة الكوردية لدفع الكورد للهجرة وتغير ديموغرافية المنطقة، بحجة مكافحة الإرهاب والتمدد الإيراني. وتقويض نفوذ خصومها الإقليميين، مثل إيران. كما تحاول استرضاء إسرائيل، وتهدئة مخاوفها، التي تشعر بالقلق من التمدد الإيراني في تلك المنطق، كما تسعى إلى تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، للحصول على دعمهما في هذه الجهود.
إضافة إلى ذلك، يسعى الرئيس التركي إلى استغلال الصراع في المنطقة لإعادة إشعال الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، وذلك بهدف استقطاب الدول العربية السنية لدعمه. كما يهدف إلى توسيع نفوذه التجاري في هذه الدول، والحصول على مساعدات مالية لإنعاش اقتصاده المتعثر. علاوة على ذلك، تسعى تركيا إلى إطالة أمد الصراع في سوريا، لا سيما في محافظة حلب، والتي تعتبرها جزءًا من مشروعها التاريخي، كما أكد ذلك مؤخرًا زعيم الحزب القومي التركي دولت باخجلي في خطابه الأخير.
تشهد الأحداث المتسارعة في سوريا استقطابات متزايدة بين القوى المتصارعة، مما يفرض تحديات كبيرة على القوى السياسية السورية، وخاصة تلك التي تدعو إلى الحوار وتسوية سياسية شاملة، وتريد إرساء نظام ديمقراطي. مع تصاعد العنف وتغير خريطة السيطرة، تواجه هذه القوى اختيارات صعبة قد تهدد وحدتها وهيكلها. خاصة المسار الديمقراطي السوري، الذي أُعلن عنه في مؤتمر بروكسل منذ وقت قريب، فهل يستطيع هذا المسار الحفاظ على موقفه الموحد في ظل هذه التطورات المتسارعة؟ والتي قد تعيق تحقيق أهدافه المعلنة؟ يواجه المسار الديمقراطي السوري اختبارًا حقيقيًا، حيث يتعين عليه إثبات قدرته في مواجه الصعاب، وتوحيد القوى السورية المعارضة، وتحقيق تطلعات الشعب السوري في الحرية والديمقراطية
ختاماً تترك تداعيات الصراع في سوريا آثارًا عميقة على المنطقة والعالم. فتركيا، بصفتها لاعبًا رئيسيًا في هذا الصراع، تتحمل مسؤولية كبيرة عن الوضع الإنساني المتدهور، وتشريد الملايين من المدنيين. كما أن سياساتها العدوانية تهدد الاستقرار الإقليمي، وتزيد من حدة التوترات القومية، والطائفية، والدينية. على الصعيد الدولي، تثير سياسات تركيا قلقًا متزايدًا، خاصة في ظل التطورات الأخيرة في العلاقات التركية الأوروبية والأمريكية. يبقى السؤال: هل ستتمكن تركيا من تحقيق التوازن بين اطماعها الاقليمية، ومصالح المجتمع الدولي.