عبدالباقي اليوسف
بصفتي فاعلاً في الحراك السياسي ومتابعًا لتطورات الحركة الوطنية الكوردية على مدى عقود، واطلاعي العميق على برامج وأهداف مختلف الأحزاب الكوردية في سوريا، ومشاركتي في بعضها وأساليب نضالها، أؤكد أنه لم يدعُ أي حزب أو حركة كوردية قط إلى تقسيم سوريا. لقد استرعى انتباهي البيان الصادر عن الرئاسة السورية تعقيبًا على المؤتمر الوطني الأخير الذي عقدته الحركة في قامشلو. اللافت في هذا البيان هو تلك النبرة التي تبدو وكأنها صدرت تحت وطأة ضغوط إقليمية وربما داخلية، إذ تضمن سلسلة من الاتهامات التي أراها تفتقر إلى أساس واقعي راسخ، مما يثير تساؤلات جدية حول الدوافع الحقيقية وراء هذا الرد الرسمي.
يبدو لي أن شريحة واسعة من النخب السورية وجزءًا لا يستهان به من الشعب السوري لا يزالون أسرى لأوهام النظام التركي الراهن. وقد حذرت المعارضة السورية مبكرًا في مقالة بعنوان “سوريا بعد أكثر من مئة عام من أحلام بطرس البستاني”، نشرت في كانون الثاني عام 2016، من مغبة غدر محتمل من الحكومة التركية. وذكّرتهم بخيانة حكومة أتاتورك آنذاك للكتلة الوطنية السورية وثورة جبل الزاوية بقيادة إبراهيم هنانو، عندما قايضتهم مع الحكومة الفرنسية وضمت مساحات شاسعة من منطقة الانتداب الفرنسي إلى الدولة التركية الحديثة. وما زالت مقايضات تركيا للمعارضة السورية مع روسيا، بموجب اتفاقيات أستانا، ماثلة للعيان في كسر الحصار الذي فرضته المعارضة على العاصمة دمشق، مقابل تخلي روسيا عن الكورد في عفرين ومناطق جرابلس.

لقد طرأ تحول ملحوظ على مواقف الحكومة التركية تجاه الكورد؛ فمنذ حوالي عامين اتخذت سياسة الدولة التركية مسارًا مختلفًا حيال القضية الكوردية في تركيا والمنطقة، عقب فشلها في حسمها عسكريًا. وتشير معلومات خاصة، إلى عروض تركية سرية تُقدم لجهات من الحركة الكوردية، تتمحور حول قبول الكورد في سوريا بضم شمال سوريا وشرق الفرات إلى تركيا على غرار لواء إسكندرون، مقابل منح الكورد حقوقًا ثقافية في تركيا. بيد أن القوى الرئيسية الفاعلة في الحركة الكوردية في غرب كردستان تبدي ارتيابًا عميقًا تجاه تركيا، وتفضل التعويل على حلول مُرضية مع حكومة دمشق.
بالنظر إلى نتائج المؤتمرالوطني الكوردي، يتضح جليًا تركيز المشاركين على التأكيد على وحدة الأراضي السورية وسيادتها. هذا التأكيد يكتسب أهمية قصوى في ظل الوضع الراهن، حيث لا تزال الوحدة الحقيقية للبلاد معلقة، وسلطة الحكومة المركزية في دمشق لا تشمل كامل الأراضي السورية. وقد بدا المؤتمر، الذي شهد مشاركة واسعة من مختلف أطياف الشعب الكوردي، بمثابة رد فعل طبيعي على سياسات التهميش والإقصاء التي يشعر الكورد بأنهم يواجهونها من القوى الصاعدة في سوريا، وهم الذين يمثلون نسبة كبيرة من السكان.

من اللافت للانتباه استبعاد الكورد بشكل ملحوظ من العملية السياسية الانتقالية، سواء من مؤتمرات الحوار الوطني أو من الإعلان الدستوري الجديد، الذي تجاهل هويتهم القومية وحقوقهم الأساسية. والأكثر إثارة للدهشة هو التغاضي عن الإشارة إلى الإدارة الذاتية القائمة في شرق الفرات، والتي تدير شؤون ملايين السوريين من مختلف الخلفيات القومية والعرقية والدينية.
بناءً على ما تقدم، تكشف رسالة الرئاسة السورية بوضوح عن عدم قناعة حكام سوريا الجدد بحقوق المكونات السورية المتعددة. يبدو أنهم ما زالوا غير قادرين على التخلي عن أفكار حزب البعث وجماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من المآسي التي حلت بالشعب السوري نتيجة لتلك الإيديولوجيات المتطرفة، وتستند استراتيجياتهم إلى صهر هذه المكونات في بوتقة الثقافة العربية والإسلامية. وإلا فما الدافع وراء رفضهم الصريح لحقوق هذه المكونات، ثم الادعاء كما جاء في بيان الرئاسة بمنح “حقوق الإخوة الأكراد كما جميع مكونات الشعب السوري مصونة ومحفوظة في إطار الدولة السورية الواحدة، على قاعدة المواطنة الكاملة والمتساوية أمام القانون”؟ وهنا يبرز تساؤل جوهري: كيف لم تكلف الأنظمة المتعاقبة على حكم سوريا على مدى سبعين عامًا نفسها بإقامة ما يسمى بدولة المواطنة المتساوية؟ وكيف يمكن بعد هذه الحروب الطائفية إقامة دولة المواطنة المتساوية على جماجم الذين ذُبحوا بالسكاكين أو السكان الذين قُتلوا وسُوّيت منازلهم وممتلكاتهم بالأرض نتيجة للقصف العشوائي، وما كشفته وثائق “قيصر”، وسجن صيدنايا بعد فرار رأس النظام؟ وهل الوعود التي لا تستند إلى أي ضمانات حقيقية تستطيع ان تبني الثقة لدى الآخرين؟
ففي الأيام القريبة الماضية، وتحديدًا في السابع والثامن من آذار الماضي، وقعت إبادة جماعية للعلويين على أساس الهوية على يد قوات الأمن ومجموعات رديفة لها في اللاذقية وطرطوس، راح ضحيتها ما يزيد على 2000 شخص، وما زلنا نشهد عمليات تصفية على أساس الهوية الطائفية والدينية. إن دولة المواطنة الحقيقية لا تُبنى بالشعارات الرنانة أو بفعاليات شكلية تهدف إلى استرضاء القوى الغربية. إن الحرص الصادق على وحدة وسيادة الدولة السورية، وبناء دولة المواطنة المتساوية الحقة في السياق السوري الراهن، يبدأ من القاعدة، من الاعتراف الكامل بحقوق كافة المكونات وترسيخها في دستور عصري يضمن هذه الحقوق ويحمي أمن وسلامة الجميع، ويحصن الدولة من عودة الاستبداد. عندها فقط يمكن القول بأننا وضعنا الأسس المتينة لبناء دولة يتساوى فيها جميع أبنائها.
إن اتهام المؤتمر الكوردي بالنزعة الانفصالية يبدو لي بعيدًا كل البعد عن الواقع، فالمخرجات المعلنة تركز على إيجاد حل للقضية الكوردية ضمن إطار سوريا موحدة. بل إن الرؤية السياسية المطروحة تدعو إلى تبني هوية جامعة للدولة، ونظام اتحادي ديمقراطي كحل يضمن توزيعًا عادلاً للسلطات والثروة، انطلاقًا من قراءة تاريخية ترى أن المركزية المفرطة قد أدت إلى الاستبداد والصراعات، والحرب الأهلية في سوريا.
ختامًا، يبدو أن هناك تباينًا واضحًا في الرؤى بين الحركة الوطنية الكوردية والقوى الحاكمة في سوريا حول شكل الدولة ومستقبلها. فبينما يطالب الكورد بنظام يضمن حقوق جميع المكونات ويعكس التعددية السورية، يبدو أن هناك إصرارًا على نموذج مركزي قد لا يستوعب هذه التطلعات. إن بناء سوريا المستقبل كوحدة وطنية حقيقية يتطلب الاعتراف بحقوق جميع مكوناتها وترسيخها دستوريًا وقانونيًا، وهو ما يبدو أنه لا يزال يمثل تحديًا كبيرًا.