عبدالباقي يوسف

مرّت على منطقة الشرق الأوسط الكثير من الحضارات والثقافات والاديان، الأمر الّذي جعلها ساحةً لحروبٍ شرسة ومدمرة على مدى قرونٍ عدّة، مازالت بعضها مستمرةً بينما آثار بعضها الآخر لم تلتئم بعد. كانت الانتماءات والهويات الدينية والطائفية سائدةً في وقتٍ لم تتبلور فيه الهويات القومية والقومية الوطنية بمفهومها المعاصر بعد، وكان للانقسامات العقائدية والسعي للحصول على تمثيل دورٍ اكبر من قبل نخبٍ سياسية عديدة تأثيرٌ كبير في تحفيز الطائفية والسلوك الطائفي، إضافةً الى دور النزاع على الموارد والأمن وتقاطع الهوية الطائفية مع النزعات العرقية والوطنية المحلية. خفت حدة الصراع الطائفي والديني، او بالأحرى تم تجاهل الهويات الطائفية بحجة اولوية اخراج الاجنبي بعد الحرب العالمية الاولى، وانهيار السلطنة العثمانية، وتقسيم المنطقة بين الدول المنتصرة، وانشاء الدول الوطنية.كما كان لظهور الاتحاد السوفييتي السابق كقوةٍ دولية دورٌ كبير في تراجع الصراع الديني والطائفي؛ لنشرها أفكار الماركسية ومبادئ حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، ولهذا ساد في المنطقة هدوءٌ عام حتّى عام 1979 بغض النظر عن بعض الصراعات المحلية كالتي جرت في لبنان ، لكن هذا لا يعني اخماد الصراع الطائفي او اختفائه للأبد، لكن هذا لا يعني بان الصراع الطائفي أخمد او اختفى إلى الأبد لولا الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 والذي اعاد الصراع الطائفي على السقف، فقد سبق ذلك الحدث بنحو عقدين من الزمن حركة طائفية علوية سرية داخل حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا بقيادة عددٍ من ضباط هذه الطائفة، تمكنت السيطرة على السلطة، وقيادة الحزب عام 1970 بزعامة حافظ الأسد، وبالتالي انتُزعت السلطة من السنة، والتي كنت محصورةً عليهم في بلاد الشام منذ العهد العثماني. اشتدت عوامل الصراع الطائفي اكثر في المنطقة مع وصول حزب العدالة والتنمية الى سدة الحكم في تركيا عام 2003، حيث ساهمت السلطة الجديدة في إحداث العديد من النزاعات الطائفية، لعل أشدها حدث في اعقاب حركات الربيع العربي، مساهمةً بذلك في طفو العديد من التنظيمات المتشددة في العديد من دول المنطقة، وبعض النخب السياسية والثقافية بمن فيهم الكثير من الفئات الّتي ادعت العلمانية، وحتى بعض النخب اليسارية والشيوعية.بالنظر الى منطقة كوردستان وعلى الرغم من الانقسام الاول الّذي نتج عن الصراع بين نفوذ كلٍ من الامبراطورية الفارسية ذات المذهب الشيعي والسلطنة العثمانية ذات المذهب السني اللتان تسلحتا بالطائفية، فان التاريخ يشهد بأنه عاش على أرض كوردستان العديد من الأديان والطوائف المختلفة بسلام ووئام وحسن جوار في ظل الإمارات الكوردية لفتراتٍ طويلة، الا ان سياسة السلطنة العثمانية قد حالت في بعض الاحيان الى الصراعات الطائفية كوسيلةٍ لإخماد الحركات النهضوية القومية لبعض شعوبها، وأن عدم تشكيل سلطةٍ سياسية او حكمٍ سياسي كوردي شاسع في المنطقة يجعل من الصعب التكهن بما سيكون للطائفية تأثير على المشهد ومدى حدتها. أنّ حدة الطائفية والسلوك الطائفي في المنطقة يعزى بسبب رئيسي الى الدور السلبي للقوى الاقليمية الرئيسة التي قد تصعِّب التجاهل على النخب السياسية والثقافية والكوردستانية، فالاضطهاد والتمييز اللذان لاقته بعض الاديان الطوائف في ظل كلٍّ من الامبراطورية الفارسية، والسلطنة العثمانية بشكلٍ خاص، وما تركوها من اثارٍ سلبية على نفسية أبناء تلك الطوائف وكذلك أبناء الأديان الصغيرة لن تزول سريعاً. لذا يتطلب من النخب الكوردستانية فهم الظروف والدوافع التي أوجدت هذه النزاعات الطائفية، وبالتالي يتطلب العمل وفق استراتيجية تحصّنهم في وجه سياسات وتكتيكات أنظمة الدول التي تقتسم كوردستان، وتجنب نقل النزعة الطائفية الى داخل احزابهم وبالتالي إلى داخل مجتمعاتهم، والعمل لإيجاد بنى دستورية وقانونية تضمن حماية كافة المكونات وحقوقهم وفق الوثائق والتشريعات التي تقره الأمم المتحدة، فوجود أبناء أغلبية أو أقلية طائفية على سدة السلطة، لا يعني ان حقوقها وحريتها في مأمن إن لم يكن هناك عقد اجتماعي ودستور وقوانين تحميها وتحمي بقية المكونات، ففي سوريا ورغم أن أبناء الطائفة العلوية يحكمونها منذ أكثر من خمسة عقودٍ، إلا أنه لا وجود لما هو دستوري وقانوني تحمي هذه الطائفة، التي تضررت نسبياً أكثر من السنة من حيث الأرواح جراء الانتفاضة السورية منذ عام 2011.رغم ان شعب كوردستان قد ظل بعيداً عن الطائفية المقيتة، لأسبابٍ عديدة لا يمكن تغطيتها في هذا المقال، إلا انه هناك مخاطر جدّية تواجهها وتواجه الحركات السياسية الكوردستانية؛ نظراً للدور الكبير لكلٍ من ايران وتركيا بالاضافة الى النظام السوري لحد ما بحكم دور الجغرافيا في تصدير وتمرير الطائفية الى داخل هذه الاحزاب؛ بسبب اضطرار الاحزاب الكردستانية الكبيرة والمسلحة الى التعامل مع هذه الدول.أنّ تمرير الطائفية الى داخل الاحزاب الكوردستانية سيشكل خطراً كبيراً على مستقبل الاجزاء التي تنشط فيها هذه الاحزاب، وبالتالي على مستقبل القضية الكوردية كونها ستدخلها في صراع جانبي قاتل تحيدها عن صراعها الرئيسي ألا وهو الصراع من أجل تأمين مستقبل شعب كوردستان وحقه في تقرير المصير ومساواته مع شعوب المنطقة. وهنا يستوجب التمييز بين ما هو الدفاع عن حقوق الطائفة وبين السلوك الطائفي، واي اخلال بهذه القاعدة والانحياز نحو الدين أو المذهب في الحالة الكوردستانية سيكون بمثابة الانتحار.. كوردستان مجزأة، ورغم ذلك تريد الأنظمة الغاصبة لها تجزئة المجزئ على المستوى المجتمعي.

عبدالباقي يوسف