عبد الباقي اليوسف

تعد القضية الكوردية من أبرز القضايا الشائكة في الشرق الأوسط، حيث عانى ويعاني الشعب الكوردي عقودًا طويلة من الاضطهاد والتهميش. هذا الصراع الطويل والعسير، الذي تسبب في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات ودمار بيئي هائل، أسفر عن ولادة إقليم كوردستان العراق. يعود تعقيدها إلى توزع الشعب الكوردي على أربع دول، والتي تبنت سياسات تهدف إلى القضاء على الهوية الكوردستانية ودمج الكورد في ثقافاتهم. علاوة على ذلك، لعبت الصراعات الدولية دورًا كبيرًا في تعقيد القضية، حيث استغلت الدول الإقليمية توزع تحالفاتها مع القوى الدولية، إلى تجاهل تلك القوى لانتهاكاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي. في ظل هذا الواقع المرير، ومن عمق المعاناة الكوردية، ولد المثل البليغ “لا أصدقاء سوى الجبال”، الذي تجسد فيه الشعب الكوردي تمسكه بالأرض وتحديه للظروف القاسية، وقد ألهم هذا المثل العديد من الكتاب والصحفيين ليس فقط الكورد بل الغربيين أيضاً، ليصبح عنواناً لأعمال أدبية وصحفية عديدة تعبر عن الصمود والتحدي وطموح هذا الشعب إلى الحرية والاستقلال.
تحولات القضية الكوردية في ظل النظام الدولي الجديد
أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى تغييرات جذرية في النظام الدولي، مما أثر بشكل كبير على توازن القوى في مناطق عديدة، خاصة في الشرق الأوسط. وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، التي أطاحت بالجيش العراقي، وتوقيع العراق على صك الاستسلام، بدأت القضية الكوردية في العراق والمنطقة تأخذ منحى جديدًا. فقد تراجعت القيود المفروضة على الكورد نسبياً، وفتحت أمامهم آفاق جديدة لتحقيق تطلعاتهم. استغل الكورد هذه الفرصة لإعادة بناء مؤسساتهم وتنظيم صفوفهم خاصة في العراق، بعد عقود من القمع والاضطهاد الذي مارسه النظام السابق. وعقب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين، شهدت البلاد تحولات عميقة، أبرزها وضع دستور جديد ديمقراطي عام 2005. هذا الدستور، الذي يختلف جذريًا عن الدساتير العراقية السابقة، كفل الحريات الأساسية للأفراد والجماعات، وأرسى دعائم نظام سياسي ديمقراطي يقوم على التوافق والبرلمان، مع فصل واضح للسلطات. كما أقر الدستور النظام الفدرالي، مما منح إقليم كوردستان حكما ذاتيًا واسعًا.
يوضح تاريخ النضال الكوردي الطويل أن تحقيق تطلعات الشعب الكوردي يتطلب جهودًا مشتركة من الداخل والخارج. فمن جهة، يلعب العامل الذاتي – عامل الإرادة الشعبية والتنظيم الداخلي دورًا حاسمًا. ومن جهة أخرى، يتطلب الواقع المعقد للمصالح الدولية والإقليمية أن تتفاعل القوى الكوردية بحكمة مع العامل الموضوعي – العامل الدولي كأكثر أهمية. تواجه القضية الكوردية تحديات كبيرة بسبب سياسات الدول المجاورة، مثل تركيا وإيران، اللتين تسعيان إلى الحفاظ على نفوذهما في المنطقة ومنع قيام دولة كوردستانية مستقلة. لذلك، يجب على القوى الكوردية بناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية، وتحليل مصالحها بدقة، والسعي لتحقيق أهدافها الوطنية في ظل هذا الواقع المعقد. كما يؤكد التاريخ أن التحالفات السياسية تتغير، وأن التحديات ستظل قائمة. لذا، يجب على القوى الكوردية أن تعتمد على قدراتها الذاتية وأن تبني علاقات دولية متوازنة لتحقيق أهدافها.
التدخلات الإقليمية وكبح جماح التطلعات الكوردية
بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، أُنشأت منطقة حماية دولية للكورد في شمال العراق بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688. جاء هذا القرار ردًا على حملة القمع الوحشية التي شنها النظام العراقي ضد الكورد، مما أثار قلقًا بالغًا لدى الدول المجاورة، لاسيما إيران وتركيا. اعتبرت هاتان الدولتان أن هذا التدخل الدولي يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحهما وأمنهما القومي، ورأت فيه انفتاحًا غربيًا على القضية الكوردية يتجاوز حدود القبول. لذلك، عملتا بكل قوة على تأجيج الصراعات الداخلية بين الأحزاب الكوردستانية واستغلالها، والتي تفاقمت بشكل كبير أثناء حرب الأخوة. وقد ثبت تورط المخابرات التركية والإيرانية في تزويد الأطراف المتحاربة بالأسلحة، مما أدى إلى إطالة أمد الصراع وأضعف بشكل كبير جهود بناء الحكم الذاتي في إقليم كوردستان.
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، رحب الشعب الكوردي، إلى جانب مكونات عراقية أخرى، بالقوات الدولية التي شاركت في تحرير البلاد، جاء هذا الترحيب رداً على المعاناة التي تعرض لها العراقيون بصفة عامة والكورد بصفة خاصة على يد النظام البعثي ، إلا أن هذا التقارب أثار مخاوف عميقة لدى تركيا وإيران، اللتين خشيتا من أن يؤدي إلى تعزيز المطالب الكوردية بالاستقلال وتشجيع الحركات الكوردية في مناطق أخرى. وجاء إعلان الفدرالية في الإقليم ردود فعل عنيفة من إيران وتركيا، واشتدت التدخلات حد ضبط قوات التحالف الدولي خلية إرهابية في كركوك تضم ضابطًا تركيًا، سعياً لعرقلة تقدم الإقليم والحركة الوطنية الكوردستانية، لجأت هاتان الدولتان إلى عدة استراتيجيات، من بينها تشويه صورة الشعب الكوردي وتصويره على أنه غير قادر على الحكم بذاته، وذلك من خلال نشر روايات حول تخلفه وعشائريته. كما سعتا إلى استغلال التيارات الإسلامية المتطرفة وترويج أفكارها بين الشعب الكوردي بهدف تقويض وحدته.
استهداف الإيزيديين: فصل جديد في مأساة الكورد
نشأت الحركة السياسية الكوردستانية في العراق أربعينيات القرن الماضي، واتسمت معظم الأحزاب والحركات التي ظهرت حينها بطابع ديمقراطي وعلماني. ويعود ذلك إلى الثقافة الدينية المعتدلة السائدة في المجتمع الكوردي. وما عززت هذه الثقافة تحيز العالم الاسلامي، لم يبدِ تضامنا بالحد الأدنى مع قضيتهم ولم يستنكر يوماً السياسات التمييزية والعنصرية التي مورست بحقهم من قبل الدول التي تقتسم بلاده، رغم أن غالبية الكورد هم من المسلمين.

في عام 1988 شهد العالم جريمة حرب مروعة عندما استهدف نظام صدام حسين مدينة حلبجة بالأسلحة الكيميائية، مما أسفر عن مقتل آلاف المدنيين الأبرياء. ومع ذلك، أصدر المؤتمر الإسلامي، الذي كان يعقد جلساته في الكويت في ذلك الوقت، بياناً يدعم النظام العراقي بدلاً من إدانته. هذا الموقف المتناقض كشف عن ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية في المنطقة، وأثار خيبة أمل عميقة لدى الشعب الكوردي، خاصة تجاه العالم الإسلامي. في ظل هذا الإخفاق الدولي، لجأ الشعب الكوردي إلى الاعتماد على القوى الغربية، آملاً في الحصول على الدعم لحقوقه المشروعة والعيش بحرية وكرامة.
عقب إنشاء المنطقة الآمنة عام 1991، شهد إقليم كوردستان العراق نشاطًا متزايدًا للجماعات الإسلامية. ففي منتصف التسعينيات، أنشأ حركة الأخوان المسلمين العالمية فرعاً لها باسم الاتحاد الإسلامي الكوردستاني، وقد سبقها الجماعة الإسلامية التي غيرت اسمها لاحقًا إلى “جماعة العدل في كوردستان”. وكانت هذه الجماعات على صلة بجماعات إسلامية متطرفة أخرى في المنطقة، مثل تنظيم القاعدة. كما تشير بعض التقارير إلى وجود دعم خارجي لهذه الجماعات من قبل أجهزة أمنية في دول الجوار، ولاصحاب النفوس الضعيفة من أئمة الجوامع، بهدف التأثير على الثقافة العامة، لزعزعة الاستقرار في الإقليم، ومواجهة النفوذ الغربي. لوحظ تصاعداً ملحوظاً في العقد الأخير لنشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة. يعود ذلك إلى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية. فمن الداخل، ساهمت تفشي الفساد، والمحسوبية، والبطالة، وتدهور الخدمات، والانقسامات السياسية، وتجاهل الأحزاب الكبرى لبعض التجاوزات، بهدف كسب اصوات المتدينين في الانتخابات البلدية والبرلمانية. وقد استغلت هذه الظروف من قبل دول إقليمية وجماعات متطرفة لزعزعة الاستقرار وتجنيد الشباب المحبط.
مع توفر الظروف الداخلية، حققت سياسات الدول الاقليمية المعنية مكاسب، تبدو في خطب الجمعة بتاريخ 9 حزيران، عندما استغل بعض أئمة جوامع كوردستان تصريحات شخصية إيزيدية، زاعمين أنها تُسيء للإسلام، وطالبوا بقتلهم، ولصقوا بهم تهمًا باطلة بهدف تشويه سمعتهم ومعتقدهم. رغم أن الإيزيديين هم جزء أصيل من النسيج الاجتماعي الكوردي، وقد قدموا تضحيات كبيرة للحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية، إلا أن استهدافهم بهذه الطريقة يهدف إلى زعزعة الاستقرار في الإقليم، وتأصيل خطاب الكراهية، وإثارة الفتن الدينية، وتشويه صورة الكورد في العالم، مما يضعف الدعم الدولي للقضية الكوردستانية. ورغم مرور شهر على تلك الخطابات التحريضية، لم يتحرك الحزبان الإسلاميان المذكوران باتخاذ أي إجراءات تحذيرية ضد الأئمة الذين أطلقوا تلك التصريحات.

خاتمة: الطريق إلى الاستقرار في إقليم كوردستان
لتجنب استمرار هذا الوضع الخطير، يجب على حكومة إقليم كوردستان اتخاذ إجراءات حاسمة وبناءة، مثل مكافحة الفساد، وتحسين الخدمات العامة، وتعزيز الوحدة الوطنية من خلال التركيز على الهوية الكوردستانية الجامعة، وحماية حقوق جميع المكونات، لا سيما الإيزيديين الذين تعرضوا لمجازر مروعة عبر التاريخ، وتوفر لهم الدعم اللازم للتعافي من المآسي التي تعرضوا لها. كما يجب على المجتمع المدني أن يلعب دورًا فعالًا في تعزيز الحوار بين مختلف المكونات وبناء ثقافة التسامح والاحترام المتبادل. من جانبه، يجب على المجتمع الدولي أن يضغط على الدول الإقليمية لوقف التدخل في الشؤون الداخلية للإقليم، وأن يدعم جهود تحقيق الاستقرار والسلام. إن القضية الكوردية، كما رأينا، هي نتاج تاريخ طويل من الصراع والتهميش، وتتطلب حلولاً سياسية شاملة تراعي التطلعات المشروعة للشعب الكوردي. على الرغم من التحديات الجسام، فإن الشعب الكوردي يمتلك إرادة صلبة وقدرة على التغلب على الصعاب، وبالتعاون مع المجتمع الدولي، يمكن تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.