خضر م. حسن *
في البداية وقبل أن أتطرق للوجود الكوردي في ديرالزور في العصر الحديث، لابد من التنويه إلى نقطتين هامتين، الأولى هي أن الهدف من هذا المقال هو تبيان الظروف التاريخية التي أدت لهذا الوجود، وليس البحث عن الأنساب. لذلك وتجنباً لأي إلتباس أو سوء فهم لن أذكر اسم أي عائلة من العوائل الكوردية التي قَدِمَت إلى دير الزور واستقرت فيها، سواء اعتزت بجذورها الكوردية أو أنكرتها. لن أذكر هنا سوى اسم عائلتي. أمّا النقطة الثانية فهي قناعتي التامة بأن الكوردي ليس مَن كان أبواه كورديين، وليس الكوردي مَن تكلم الكورديّة، بل الكوردي من قال أنا كوردي و عَمِل مِن أجل كورديته.
لقد تدفقَ الكورد إلى دير الزور في العصر الحديث على ثلاث موجات:
الموجة الأولى: كانت في نهاية عصر الدولة العثمانية والفوضى التي عمّت شمال كوردستان آنذاك بسبب ما أفرزته حالة الحرب العالمية الأولى من انعدام الأمن وانتشار حالات السرقة والسطو المسلح، وكانت تلك الفترة فرصة ذهبية لأولئك الذين يطالبون بثاراتهم، فانتشر القتل هناك، وفرّ النّاس حينها من وطنهم باحثين عن الأمن والأمان. ناهيك عن الهزيمة النفسية التي تعرض لها الكورد وغَدِر الغرب لهم، الغرب الذي أدرج اسم دولة كوردستان من ضمن الدول التي أعلن عن قيامها في تقسيمه للتركة العثمانية في معاهدة سيفر الموقعة في العاشر من آب/أغسطس سنة 1920 ثم تراجعه عنها في إتفاقية لوزان 24 تموز/يوليو 1923 و تخلى فيها عن وعوده في دعم قيام دولة كوردستان وتركه الكورد يواجهون مصيرهم المجهول.
استقر قسم قليل من الكورد الذين هربوا من وطنهم للأسباب السابقة في دير الزور. أبناء هذه الموجة اليوم في العموم لايتحدثون الكوردية ولا يفهمونها، قسم منهم ينكر كورديته عن جهالة، وخجلاً من محيطه العربي متجاهلاً نسبه لأجداده الكورد الذين كانوا من أشجع القادة في الجيوش العثمانية، ومن كبار علماء الدين الإسلامي الحنيف، ومن كبار شيوخ الطرق الصوفية التي عاشت عصرها الذهبي في شمال كوردستان إبّان فترة الحكم العثماني. القسم الآخر منهم يقولها بلا مبالاة: “يقولون أن أصولنا كوردية، والعلم عند الله”! هذه الموجة في العموم انفصلت نهائياً عن ماضيها و انصهرت في المجتمع الجديد ولا تعرف لها وطناً غيره.
الموجة الثانية: امتدت من 1944 حتى سنة 1960 تقريباً. أسبابها شبيهة بالأسباب التي أدت لحدوث الموجة الأولى. حيث كانت افرازات الحرب العالمية الثانية قاسية جداً في شمال كوردستان، ناهيك عن الظلم والإهمال والتهميش الذي مارسته الحكومات التركية بحق الكورد، والضربات القاسية التي تلقتها الثورات الكوردية المتتالية التي قام بها الكورد في وجه حكّام تركيا، والتي لم تتوقف خلال الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى و الثانية. أبناء هذه الموجة انقسموا أيضاً إلى قسمين: القسم الأول، انسلخ عن الهم القومي والعمل الثوري نهائياً كَرَدَة فعل على الخيبات الكوردية المتلاحقة، وفشل القادة الكورد في تنظيم صفوفهم. هذه الفئة من الكورد سارعت إلى الإنصهار في مجتمعها الجديد. كانت أسرع وسيلة لذلك الإنصهار هي “التزاوج”. بطبيعة الحال نشأ جيل من هذه الأُسَر الجديدة التي أحد طرفيها كوردي والآخر عربي، نشأ جيل جديد لا يتقن سوى اللغة العربية، فهي لغة الشارع ولغة العمل ولغة الجوار ولغة المدرسة.
القسم الثاني، اندمج أيضاً بمجتمعه الجديد، لكنه بقي على صلة متينة بجذوره وحافظ بشكل كبير على خصوصيته القومية ومتابعة أخبار الثورات الكوردية. ونظراً لاتساع رقعة الفكر القومي العربي، حيث تأسست عدة كيانات قومية عربية في عموم سورية في تلك الفترة، استشعر الكورد “المحافظين” في ديرالزور بأن الحالة السياسية في البلاد لا تطمئن، وأنها تتجه باتجاه الدولة القومية بعد أن شارك عموم الشعب السوري بعربه وكورده في طرد المستعمر الفرنسي من البلاد على أمل تأسيس نظام وطني ديمقراطي سوري يتساوى فيه جميع المواطنين في الحقوق و الواجبات. نظراً لذلك سعى كورد ديرالزور “المحافظين” لحماية خصوصيتهم القومية، حيث حاول بعض أنصار التكتلات القومية العربية حينها، وخاصة بعد سماعهم خبر انتصار الثورة الكوردية في إيران وإعلان الكورد عن قيام “جمهورية مهاباد” في 22 كانون الثاني/يناير 1946 التي تعتبر أول انتصار كوردي حقيقي و أول كيان كوردي رسمي في العصر الحديث، حاول بعض عناصر تلك التكتلات الشوفينية منع الكورد من التحدث بلغتهم ومضايقة من يفعل ذلك. في الواقع كانت تلك التصرفات فردية وليست رسمية، في حين كان النفس الشعبي العربي العام في ديرالزور ينظر للكورد على أنهم أخوة للعرب في الدين والإنسانية لهم ماللعرب وعليهم ما على العرب. يتبع….
*خضر م. حسن
باحث وأكاديمي كوردي