خضر م. حسن*

بعد عدة اتصالات شخصية وعبر البريد مع الراحل خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري آنذاك، وجد كورد ديرالزور أن هذا الحزب هو أفضل جسد سياسي على الساحة السورية قادر على إيصال مطالب الكورد لحكومة دمشق، فانضم الكثير منهم للحزب الشيوعي السوري. و مع تأسيس أول حزب سياسي كوردي في سورية يوم 14 حزيران/يونيو من عام 1957 “الحزب الديمقراطي الكردستاني” سارع جميع أعضاء الحزب الشيوعي السوري من كورد ديرالزور، شأنهم شأن عدد كبير من أعضاء الحزب الكورد في جميع المحافظات السورية للاستقالة من عضوية الحزب الشيوعي السوري الذي لم يحقق لهم طموحاتهم القومية وانضموا لصفوف الحزب الكوردي الوليد.

مع قيام الوحدة بين سوريا ومصر والاعلان عن قيام “الجمهورية العربية المتحدة” في 22 شباط/فبراير سنة 1958 انتشر التعصب الناصري، حيث اشترط عبد الناصر لقبول الوحدة مع سورية الغاء التعددية السياسية التي كان يتباهى بها السوريون. هذا التعصب الغريب عن طبيعة مجتمع ديرالزور المعتدل، والذي جاء به الفكر الناصري كان وبالاً على المدينة وأهلها حيث جيء بالكثير من العمال المصريين إلى مدن الإقليم الشمالي ومنها ديرالزور مما أدى إلى اختلال توازن قوى العمل والتركيبة الاجتماعية للسكان في المدينة. لقد عانى أهالي ديرالزور عموماً في تلك الفترة من الاضطهاد الطبقي الناصري، إلا أن الكورد في ديرالزور عانوا إلى جانب ذلك من الاضطهاد القومي أيضاً.

نشط كود ديرالزور “المحافظين” آنذاك في العمل السياسي السري في صفوف حزبهم الجديد، وكانوا منَظَمين، ملتزمين و مضحين إلى أبعد الحدود، فشكلوا من أجل ذلك الخلايا و الفرق الحزبية، لقد قسّموا المهام فيما بينهم وبنوا جسوراً للتواصل مع المثقفين الوطنيين من أبناء المدينة وسياسيها بغية تعريفهم بالقومية الكوردية وتبادل الأدبيات الحزبية واقامة ندوات سياسية و ثقافية مشتركة. لقد دفعوا من أجل ذلك ثمناً باهضاً، فلم ينفذ كوردي واحد من أعضاء “الحزب الديمقراطي الكردستاني” في ديرالزور آنذاك من الاعتقال والتعذيب، خاصة بعد تعاطفهم مع ثورة الخالد الملا مصطفى البارزاني في العراق سنة 1961 وجمعهم التبرعات لصالح الثورة. لم يحتمل قسم من أولئك الكورد ظروف الهجرة والاغتراب وحياة السجون والمعتقلات بعيداً عن جذوره، فآثر قسم منهم العودة إلى شمال كوردستان (كمثال أبناء عمومتي الذين عادوا سنة 1963 إلى قريتنا متينا، إحدى قرى جبال أومريان). وقسم آخر آثَر الانتقال إلى مناطق سورية أخرى يكون الكورد فيها أكثرية كالقامشلي. وبقي قسم آخر (ونحن منهم) في دير الزور التي أحبوها و أحبتهم وفيها أضرحة موتاهم، بقيوا فيها حتى سنة 2014 إذ أصبح العيش فيها مستحيلاً.

الموجة الثالثة: بدأت منذ سنة 1970 وبلغت أوجها في ثمانينات القرن العشرين.
سنة 1973 بدء حزب البعث العربي الاشتراكي بتنفيذ خطة “تغيير التركيبة السكانية في الحسكة” التي أقرها في مؤتمره القطري الثالث سنة 1966 والتي تنص على: “إعادة النظر في ملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية – التركية بامتداد 350 كم وبعمق 10- 15 كم، وهو شريط كان يتميز بوجود كتلة بشرية كوردية فيه واعتبارها ملكاً للدولة، وتطبّق فيها أنظمة الاستثمار الملائمة بما يحقق أمن الدولة”. بموجب ذلك استولت الحكومة السورية على مساحة زراعية قُدّرت بـ 5250 كم²، من الفلاحين الكورد و وزعتها على فلاحين عرب جاءت بهم من محافظة الرقة بمعدل 300 دونم لكل أسرة بغرض اشعال نار الفتنة بين العرب و الكورد. لقد تضررت من هذا المشروع 335 قرية كوردية وبلغ عدد السكان المتضررين أكثر من 150 ألف نسمة. (كما يذكر الباحث السوري علي شيخو برازي في بحثٍ له نشرته جريدة يكيتي في عددها رقم 312).

اضطر هؤلاء الفلاحين الكورد لمغادرة أراضهم والبحث عن مكان آخر لكسب لقمة العيش. توجه قسم كبير منهم إلى دمشق، نظراً لوجود جالية كوردية كبيرة هناك، وقسم منهم آثر الذهاب والعمل في ديرالزور نظراً لقربها من أراضهيم المغتصبة وكذلك لوجود أقارب لهم في ديرالزور، ناهيك عن الأخبار التي وصلتهم من قُدامى كورد ديرالزور الذين وجدوا في المدينة وطناً آخراً لهم و حديثهم عن تمسك أهالي ديرالزور بالعادات العربية – الإسلامية الأصيلة المشابهة لعادات الكورد.

سنة 1977 أعلنت الحكومة السورية عن افتتاح كلية الزراعة الثانية في دير الزور والعديد من المعاهد المهنية. الأمر الذي أدى لتدفق الطلاب الكورد من الحسكة والقامشلي خاصةً إلى ديرالزور بأعداد كبيرة طلباً للعلم، بدلاً من توجههم إلى جامعات ومعاهد دمشق وحلب، نظراً لقربها جغرافياً من مناطقهم أولاً ولسهولة العيش وبساطته في ديرالزور ثانياً. لقد وجدوا في المدينة المناخ المناسب لممارسة نشاطاتهم الرياضية والثقافية والسياسية، فشكلوا فريقاً لكرة القدم و آخراً لكرة الطائرة، وفرقة رقص فلكلوري، وشاركوا بقوة في الندوات و النشاطات السياسية والأدبية. و أود أن أذكر هنا أن عدداً قليلاً من الطلبة الكورد بدء بالتدفق إلى دير الزور بدءً من العام الدراسي 1970/1971 حيث كان إحداث الصف الثالث الثانوي في الثانوية الشرعية في ديرالزور (البكالوريا) من أول إنجازات الحركة التصحيحية في المنطقة الشرقية من سوريا. إلا أن أغلب طلاب الشريعة لم يكن لهم اهتمامات بالعمل السياسي آنذاك.

الجدير بالذكر أن عدد الكورد في ديرالزور سنة 1995 قد تجاوز ال 2500 نسمة بين مقيم دائم و عامل و طالب. و من الملاحظ أن عدد كبير من العمال الذين جاؤوا في هذه الموجة إلى ديرالزور بهدف العمل المؤقت والعودة من حيث جاؤوا، مكثوا في المدينة بشكل دائم. كذلك عدد من الطلاب بقي مقيماً في ديرالزور بعد تخرجه من جامعاتها و معاهدها! الأمر الذي يشير إلى طيب العيش فيها والى صفات أهلها الطيبين وطباعهم الكريمة وتمسكهم بالأخلاق العربية الأصيلة مِن اِستجارة المستجير وإغاثة الملهوف وحماية الغرباء وأبناء السبيل.

يختلف كورد ديرالزور عن كورد دمشق وحلب وغيرها من المحافظات السورية، أنهم رفضوا وعن وعي سابق لعصره أن يشكلوا حيّاً خاصاً بهم كحي ركن الدين في دمشق أو الشيخ مقصود في حلب مثلاً، بل انتشروا في جميع أحياء المدينة.

الصورة المرفقة: يظهر فيها بعض المشاركين في احتفالات كورد ديرالزور بعيد العمال العالمي في الأول من أيار سنة 1986 في ناحية التبني شمال غرب ديرالزور، بمشاركة رسمية من أحزاب كوردية والحزب الشيوعي السوري والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

خضر م. حسن
باحث وأكاديمي كوردي