عبد الباقي يوسف
لطالما كان النظام الديمقراطي هو الأفضل لحل مشاكل المجتمعات البشرية وفتح الطريق للمشاركة الواسعة في بناء الوطن ورفع مستوى التنمية، وتقديم الخدمات الأفضل لجميع فئات الشعب بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية. وفي حل القضايا القومية في الدول المتعددة القوميات، يحافظ النظام الديمقراطي على حيادية الدولة عن الأديان والأيديولوجيات الدينية، ويضمن حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، ويحترم الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والطفل والمرأة.
فقد دأبت القوى الاستبدادية وأصحاب تلك الأيديولوجيات التي لا تولي الديمقراطية اهتمامًا، وعلى مدار عقود من استقلال سوريا، على النفخ في نار الخوف لدى المواطن السوري من القومية العربية ومن الوجود الكوردي الكبير في شمال وشرق سوريا. وذلك كجزء من أدوات للسيطرة على المجتمع وتوجيه غضب الجماهير، من خلال تصوير الشعب الكوردي كتهديد لوحدة الوطن. نجحت هذه الأنظمة في تشتيت الانتباه عن فشلها الاقتصادي والسياسي، وحشد الدعم لنظامها الاستبدادي.
هذا الهاجس، إلى جانب هواجس أخرى، جعل المواطن السوري يرضخ للذل ويقبل العيش في ظل الاستبداد لعقود، ويقبل العيش في تقشف رغم أن بلده من أغنى دول المنطقة بخيراتها ومواردها. إلى درجة أن المواطن السوري والقوى السياسية السورية، باستثناء حزب العمل الشيوعي حينها، تعاطفت مع الكورد بسبب السياسات اللاإنسانية التي مارستها تلك الأنظمة بحقهم..
شوه البعض حقيقة النظام الديمقراطي وقدرته الكبيرة على توحيد المجتمعات المتنوعة، و بناء أسس متينة للتعايش السلمي بين مختلف المكونات. ومع ذلك، أثبتت العديد من الدول الديمقراطية حول العالم قدرتها على تحقيق الاستقرار والرخاء لشعوبها، حتى في ظل التحديات الصعبة. سويسرا، على سبيل المثال، تعد نموذجًا للدولة الديمقراطية المتنوعة. رغم أن الألمان يشكلون غالبية سكانها اكثر من 70%، إلا أنها حافظت على استقلالها ولم تنجر إلى ألمانيا، أو تتحالف معها حتى في أوج قوتها عشية الحربين العالميين. هذا يدل على أن الديمقراطية قادرة على الحفاظ على الوحدة الوطنية، حتى في ظل وجود اختلافات عرقية ولغوية وثقافية.
رغم مرور ثلاثة عشر عامًا على اندلاع الانتفاضة السورية، والتي كانت نتيجة مباشرة لسياسات نظام الأسد المستمدة من أيديولوجية حزب البعث، البعيدة كل البعد عن الواقع. لقد فشل حزب البعث في تحقيق الوحدة العربية التي كان يتغنى بها، بل أسس لأنظمة استبدادية في سوريا والعراق. وقد أثبت التاريخ أن الطغاة يجلبون الدمار على بلدانهم، فشهدنا حربًا أهلية في سوريا، حيث استخدم النظام القوة المفرطة لقمع المتظاهرين السلميين الذين كانوا يطالبون بالحرية والكرامة وحياة كريمة في بلد غني بثرواته. من جهة أخرى، ساهم التيار الإسلامي، وعلى رأسه الإخوان المسلمون، في تأجيج الصراع من خلال تحريض الناس على حمل السلاح، لأنهم وأسيادهم يخافون من التغيير الديمقراطي في سوريا.
بعد سنوات من الحرب والدمار، لا تزال الجروح الغائرة تنزف في عمق النسيج الاجتماعي السوري. يعيش الشعب السوري مأساة إنسانية هائلة، فتشرد الملايين ودمّرت المدن والقرى، وحرم الأطفال من طفولتهم. ورغم كل هذه المعاناة، لا يزال الكثير من النخب السياسية متمسكون بأيديولوجيات فاشلة تسببت في هذه الأزمة، يختفون خلف مصطلحات مثل بناء الدولة المدنية ودولة المواطنة، دون أن يتطرقوا إلى كيفية تحقيق هذه الأهداف في ظل الظروف الراهنة، خاصة بعد كل ما شهدناه من قتل على أسس طائفية وقومية ودينية. يترددون بشكل واضح في تبني مشروع ديمقراطي شامل يكون أساسًا لتسوية حقيقية لبناء سوريا جديدة، تقوم على دستور يضمن حقوق الشعب الكوردي وجميع المكونات السورية، والحريات الفردية والجماعات ويحصن النظام السياسي من عودة الاستبداد، ويخلق مناخًا من الثقة والأمن والأمان والتسامح، ليتجاوز الجميع آثار هذه الأزمة المريرة.
على جميع السوريين، أفرادًا ومكونات، أن يعودوا إلى الواقعية السياسية وأن يدركوا ضرورة التعايش في هذا الوطن الذي فرضته علينا الظروف التاريخية. يجب على جميع الأطراف أن تتحلى بالواقعية السياسية، وأن تسعى للتوصل إلى تسوية سياسية تنهي الصراع والدمار. يجب علينا جميعًا العمل معًا لإعادة بناء الثقة، وتمكين اللاجئين والنازحين من العودة إلى ديارهم، وإعادة إعمار البلاد، وإنهاء المعاناة التي عانى منها الشعب السوري.