عبدالباقي اليوسف
تأسست سوريا الدولة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث رسم الفرنسيون حدودها على أنقاض عدد من الولايات العثمانية السابقة. تميزت هذه الدولة الفتية بتعددية ثقافية واسعة، تضمنت مكونات قومية ودينية وطائفية وأثنية متباينة. نظراً لهذا التنوع الكبير، رأى الفرنسيون أن النظام الإتحادي هو الأنسب لبناء الدولة، مستندين إلى تجربتهم الخاصة في إدارة الأقاليم المتعددة.
اعتبر الكثيرون أن المشروع الإستعماري الفرنسي في سوريا كان يستهدف إشعال الفتن بين مكونات المجتمع السوري المتنوعة. لا تزال كتب التاريخ ومقالات العديد من الكتاب والباحثين تزخر بالأدلة على ذلك. غالبًا ما يتغاضى هؤلاء الباحثون والكتاب عن حداثة الدولة السورية وعن واقع التنوع الديني والطائفي الذي كان سائدًا حتى قبل التدخل الفرنسي. ففي ظل الحكم العثماني، كانت السلطات تستخدم هذه الانقسامات كأداة للحفاظ على سيطرتها على الأراضي الشاسعة التي كانت تحت حكمها.
رغم السلبيات التي رافقت الحكم الوطني في سوريا بعد الاستقلال ولغاية عام 1958 ، بما فيها الانقلابات العسكرية المتكررة، اليوم يتحسر الكثير من السوريين، خصوصاً المثقفون والأكاديميون والتجار والحرفيون، على تلك الفترة. ويعود ذلك إلى المناخ الذي شهد تمددًا نسبيًا للحريات والمحاولات الأولية لبناء نظام ديمقراطي برلماني، مقارنة بالأنظمة الاستبدادية التي حكمت البلاد، بعد تلك الفترة، ولغاية الانتفاضة السورية المجيدة في آذار عام 2011 ، بالشعارات الشعبوية، والوعود الكبيرة، والتي لم ترى النور سوى القليل منها. ويجب أن يقال وللتاريخ ان جميع تلك الأنظمة الحاكمة فشلت في تجاوز النزعات الطائفية، واستغلت هذه النزعات لتثبيت حكمها، مما ساهم في تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في البلاد.
شهدت الأنظمة السياسية التي حكمت سوريا منذ الوحدة المصرية السورية عام 1958 وحتى الثورة السورية عام 2011، سيطرة شاملة على مفاصل الدولة والمجتمع. اتسمت هذه الأنظمة بالشعبوية، حيث استخدمت خطاباً قومياً وعروبياً لتبرير سياساتها. فقد بنت هذه الأنظمة سلطتها على أساس شعارات عروبية واشتراكية، مستغلة المشاعر القومية والعدالة الاجتماعية لدى الشعب. ورغم هذه الشعارات، لم تعمل هذه الأنظمة على بناء مؤسسات الدولة الوطنية القوية، وأوجهت أنظار الجماهير الفقيرة إلى الوحدة العربية أولاً بينما على الواقع ركزت على تعزيز سلطتها الشخصية والفئوية، وفي الوقت نفسه، بنيت أنظمة تسلطية تعتمد على القمع والترهيب. كما استغلت هذه الأنظمة الانقسامات الطائفية لتعزيز سلطتها، فبعد أن كان الطابع السني سائداً حتى بداية عهد البعث، تحول النظام إلى طابع علوي أكثر صرامة مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة. وبالرغم من الاختلافات في الشعارات والأيديولوجيات، إلا أن جميع هذه الأنظمة اتفقت على بناء اقتصاد ريعي يعتمد على النفط، مما قوّى قبضتها على السلطة وحولها إلى أنظمة شمولية.
لطالما كانت مناقشة قضايا المكونات والتنوع في دول الشرق الأوسط محاطة بحذر شديد. فمجرد التطرق إلى هذه القضايا قد يفسر على أنه محاولة لتفتيت الأمة أو إثارة الفتن. ورغم هذا الحذر، فإن التوترات الكامنة تحت السطح تظهر جلياً في أوقات الأزمات، كما حدث في “الثورة” السورية التي تحولت إلى صراع طائفي وديني، رغم الحساسية المحيطة بهذه القضية في مجتمعاتنا، فالتجاهل المتعمد لهذه القضايا أدى إلى تفجير الصراعات الكامنة. إن تجاهل هذه الحقائق لا يخدم إلا في تأجيج النزاعات وتعميق الشرخ المجتمعي. يجب فتح حوار وطني جاد حول هذه القضايا، والتعامل مع هذه القضايا بحكمة وشفافية.
تثير الأنظمة التي استخدمت الهويات الفرعية كأداة للسيطرة تساؤلاً حول جدوى هذه الاستراتيجية. فهل حققت هذه الأنظمة أي فائدة حقيقية للمكونات التي ادعت تمثيلها؟ أم أنها أدت في النهاية إلى تفاقم الانقسامات والاضطرابات؟ التجربة السورية خير شاهد على أن استغلال الهويات الفرعية لا تؤدي إلا إلى نتائج كارثية. فما قدمته عائلة الأسد لطائفتها، على سبيل المثال، لا يتناسب مع الزعم بأنها حمت مصالحها.
تثير هيئة تحرير الشام تساؤلات جدية حول مستقبل سوريا. فبعد أن سيطرت على مناطق واسعة من البلاد، بما فيها دمشق، لم تلبِ الوعود التي أطلقها زعيمها أبو محمد الجولاني. بدلاً من تحقيق الاستقرار والعدالة، تشهد المناطق الخاضعة لسيطرتها تصاعداً في أعمال الانتقام والتحريض الطائفي. كما أن الدعوات المتزايدة لتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل صارم، وتجاهل حقوق الأقليات، تبشر بمرحلة جديدة من الصراعات والانقسامات. يبدو أن هيئة تحرير الشام تسير على نفس الدرب الذي سلكته الأنظمة السابقة، مستغلة الدين والهوية لتحقيق أهداف سياسية ضيقة. إن استمرار هذا الوضع يهدد بتقويض أي أمل في تحقيق الاستقرار والسلام في البلاد.
إن مسؤولية الخروج من أزمة الطائفية تقع على عاتق جميع السوريين، دون استثناء. يجب على النخب السياسية والإجتماعية أن تتحمل مسؤولياتها في بناء جسور الثقة بين مختلف المكونات، وقبول الآخر، وأن تعمل على ترسيخ قيم التسامح والاعتدال. كما يجب على المجتمع الدولي أن يقدم الدعم اللازم لجهود المصالحة الوطنية، وأن يعمل على منع التدخلات الاقليمية التي تزيد من تعقيد الأزمة.