"2" الحلقة
- “هل تعرف أين أنت الآن؟ أنت في سجن شيخ حسن، وإن لم تعرفه فإننا سنجعلك تعرفه ولن تنساه طوال حياتك، هذا إذا ما حالفك الحظ وخرجت حيًّا!”.
- كان الرفيقان القياديان يوسف ديبو وعادل زوزاني في هذا السجن أواخر عام 1973، قبل أن يتم نقلهم إلى سجن القلعة، ولكن لم يكن لدي أي معلومات عن ذلك السجن الذي كانوا يهددونني به.
- داخل الزنزانة يكون المعتقل منقطع عن العالم الخارجي، إذ لا يوجد راديو أوجريدة. كنا نتلهف لقراءة الورق التي تلف بها السندويش ولا نرميها. وكنت أضعها تحت البطانية لتعزلها من شدة برودة الدكة.
- عند قراءته لما كتبت، انقلب من “التعامل الأوروبي” إلى وحش هائج، جن جنونه وقال “مبين انك مانك فاهمني ولا فهمان مصلحتك. انا راح ورجيك كيف تحكي الحقيقة”.
- صفعني كفين ثم رفسني في أسفل البطن وصاح: “خذوا هالكلب وخلوه يموت بالسجن”.
- من تجربتي الشخصية تبين لي أن معلومات الأجهزة الأمنية شحيحة عن الأحزاب الكوردية، وأن عناصر الأمن غير كفوئين، وطرق وأساليب التحقيق عشوائية وهمجية تعتمد بشكل أساسي على التعذيب والترهيب، وأن عناصر الأمن يفتقرون إلى الإحساس الإنساني والمواطنة، ويعتبرون المعارضين خونة، والكورد في نظرهم يجب أن يصهروا، فهم ليسوا أقل خطرًا من إسرائيل حسب اعتقادهم.
- قال لنا أسعد خوشفي: هناك في كوردستان الكثير ليصبحوا بيشمركة، إلا أن ما تحتاجه كوردستان كثيراًهوالمتعلمين من أصحاب الشهادات الجامعية ومن المهندسين والأطباء. أقترح عليكم أن تكملوا تحصيلكم الجامعي ومن ثم العودة لمساعدة شعبكم.
التحقيق من جديد
خوى بون: متى أفرج عنك، وماذا طلبوا منك قبل الإفراج؟
عبدالباقي يوسف : في يوم ربيعي مشمس ودافئ في أواخر شهر أيار (كان يوم جمعة)، جاءني شرطي وطلب مني التحضر للخروج من السجن. لم أصدقه، وذهب تفكيري مباشرة إلى سجن القلعة. أتذكر أنني قلت ليس لدي غيرما ألبسه. ودعت السجناء، واعتذرت منهم على أي ازعاجات قد سببتها لهم بسبب وضعي الصحي. سرت مع الشرطي وذهني منشغل بسجن القلعة، الذي لم أراه ولم أعلم عنه الكثير، وكيف ستكون أساليب التعذيب فيه. إلا أنني اندهشت عندما أخذني الشرطي إلى الساحة التي فيها نافورة الماء. في الزاوية المشمسة منها، كانت هناك طاولة وفوقها آلة كاتبة وأمامها كرسيين. كان يجلس على أحدهما محقق أعرفه جيداً، كان شخصاً شرساً أثناء التعذيب. أجلسني إلى جانبه، وطلب مني أن أسرد ما جرى معي مجدداً. جاوبته أنني أخبرتهم بكل ما حصل معي وإنه لم يكن لدي جديد. أصرعلى أن أسردها مجدداً. بدأت أسرد القصة بينما كان هو يدقها على ورق الحرير. بعد أن أنهيت إفادتي، أخرج الورقة وأعطاني قلماً لأوقع تحت اسمي. بعدها إلتفت إلي وقال لي أنه سيطلق سراحي. مرة أخرى لم أصدق ما سمعته. هددني أنه لو مارست السياسة يوماً ما في هذا البلد سوف يجدوني لا محالة, ثم طلب من الشرطي فتح الباب الرئيسي للسجن.
من تجربتي الشخصية تبين لي أن معلومات الأجهزة الأمنية شحيحة عن الأحزاب الكوردية، وأن عناصر الأمن غير كفوئين، وطرق وأساليب التحقيق عشوائية وهمجية تعتمد بشكل أساسي على التعذيب والترهيب، وأن عناصرالأمن يفتقرون إلى الإحساس الإنساني والمواطنة، ويعتبرون المعارضين خونة، والكورد في نظرهم يجب أن يصهروا، فهم ليسوا أقل خطراً من إسرائيل حسب اعتقادهم.
الحمام الدمشقي
خوى بون: كيف تصرفت بعد الإفراج عنك، أين ذهبت خاصة وأن عائلتك وأهلك لم يكونوا في دمشق؟
عبدالباقي يوسف :عندما فتح لي الباب الرئيسي للخروج، لم أتوجه نحو الشارع الرئيسي الذي يربط سوق الحميدية مع ميدان باب مصلى؛ إنما اتجهت نحو اليمين، وبعد مسافة ليست بطويلة غيرت الشارع ودخلت إحدى الأزقة. لم أكن أصدق أنهم تركوني. كنت مقتنعاً أن أحدهم يتعقبني. كنت ألتفت نحوالخلف كلما دخلت زقاقاً. أحياناً كنت أشعر أن يداً يلامس كتفي. فجأة دخلت زقاقاً عريضاً فيه حمام عام. قررت أن أدخل الحمام خاصةً وأنني طوال فترة سجني لم أتحمم سوى مرتين بالماء الدافئ ولباسي كانت متسخة، وإن كان هناك من يتبعني سيمل وسيتركني بحالي. في البداية، غسلت ألبستي الداخلية وقميصي ووضعتهم فوق الحجرالساخن لينشفوا، بعدها بدأت بالإستحمام لأزيل أوساخ عدة أشهر. خرجت من الحمام بعد نحو ساعة أو أكثر. من المؤسف أنني ومن شدة قلقي لم أقرأ اسم الحمام.
بدأت السير من جديد إلى أن وصلت إلى خط إحدى باصات النقل الداخلي المتوجهة إلى حي الجرمانا حيث نزلت هناك. دخلت الحي وبالمشي من شارع إلى آخر، عدت نحو الخلف إلى حي الطبالة. طيلة هذه الجولة كنت أنظر خلفي باستمرار لأتفحص إن كان هناك من يتبعني أولا، إلى أن وصلت إلى سكن الرفيق عبدالرحمن سي قفز. كان شاباً وسيماً ومخلصاً مع أصدقائه ورفاقه. درسنا المرحلة الثانوية معاً. عندما شاهدني قفز وركض نحوي، وتعانقنا، رحب بي كثيراً وشكرالله على عودتي.
استغربت كثيراً من تكراره لشكرالله. عندما استفسرت، أخبرني أن الرفيق القيادي يوسف ديبو، عندما خرج من سجن القلعة منذ أكثر من شهر، كان قد أعلمهم أن صحتي كانت في خطر نقلاً عن أحد الإسلاميين المعتقلين والذي كانت زنزانته مقابل زنزانتي، ونقل فيما بعد إلى سجن القلعة. كان قد أخبرالرفاق أن شاباً كوردياً اسمه عبدالباقي متهم بأنه من رفاق الحزب، وأنه يتعرض لتعذيب رهيب ووضعه في خطر.
في الحقيقة أتذكر في إحدى الأيام وفي وقت متأخر من الليل، تحدث معي الشخص في الزنزانة المقابلة من خلال ثقوب الباب بصوت خافت. عرَف نفسه بأنه من الحركة الإسلامية. إلا أنني كنت أشك بأن يكون أحد عناصرالأمن ويحاول أن يحصل على معلومات. جل ما قلت له كان, أنني طالب كوردي أدرس في دمشق ومتهم بأنني منتسب إلى الحزب اليساري الكوردي، وأن هذا الإتهام باطل. أخبرني أن الزنزانة التي أمكث فيها الآن كان فيها عادل زوزاني من قبل، وأن يوسف ديبو كان في زنزانة أخرى قريبة، وأنهم كانوا قياديين في الحزب اليساري، لكنهم لم يتعرضوا لهذا المستوى من التعذيب. ادعيت عدم معرفتي بهم وأنني لم أسمع بهم يوماً.
سرعان ما صرت أشعر بقلق شديد على أمي بعد محادثتي هذه مع عبد الرحمن. والدتي كانت مسنة وكانت تعاني من بعض الأمراض حينها، لذا كان من الضروري أن أبعث لها خبر خروجي من السجن.
سألت عن الرفاق والأصدقاء وأماكن سكناهم, ثم توجهت إلى ركن الدين. منعت عبد الرحمن من مرافقتي. نزلت في موقف الكيكية بحي الأكراد، وصعدت نحو الأعلى، ودخلت في أزقتها وعكست السير باتجاه منطقة شمدين آغا. في الأعلى لموقف المدرسة، زرت الرفيق طاهر. وجدت عنده عدداً من الرفاق بمن فيهم يوسف ديبو. مازلت أتذكر فرحتهم وكأنني مولود من جديد. الرفيق يوسف تكفل بإخبار أهلي لأن الإتصال الهاتفي لم يكن سهلاً، خاصة وأن الإتصالات لم تكن متوفرة في ذلك الوقت مع الأرياف.
محاولة العودة الى الدراسة
خوى بون :ماذا عن الدراسة,هل عدت إلى المعهد لإكمال الدراسة ,هل وافقوا على قبولك مرة أخرى في المعهد؟
عبدالباقي يوسف :في الصباح، توجهت إلى الطبيب للكشف عن وضعي الصحي وليصف لي بعض الأدوية. بعدها راجعت المعهد الهندسي للكهرباء واللاسلكي الذي كنت أدرس فيه. عندما راجعت الإدارة تبين أنهم على علم من اعتقالي، ورفضوا قبولي في الدراسة إلا بعد تقديم كتاب من الأمن السياسي يسمح بذلك.
في اليوم التالي، توجهت نحو إدارة الأمن السياسي التي كانت في حي المهاجرين. استقبلني ضابط برتبة رائد كما قيل لي. لم أرى رتبته لكونه كان مرتدياً اللباس المدني. كان مهذباً معي، لكنه اشترط إعطائي كتاب الموافقة على متابعة دراستي، مقابل أن أتعهد بالتعامل معهم. رفضت الشرط وعدت إلى الحي. وبذلك انقطعت كل آمالي في متابعة دراستي. في اليوم التالي إلتقيت مع ابن خالي يوسف سليمان الذي كان في الخدمة الإلزامية بالقرب من دمشق وقد تسرح لتوه.
الاستقبال في القرية
خوى بون: متى عدت إلى مسقط رأسك وكيف استقبلك الأهل والرفاق وكيف كان شعورك بعد تلك الرحلة المؤلمة؟
عبد الباقي يوسف : بعد انقطاع الأمل بإمكانية العودة إلى الدراسة، توجهنا أنا ويوسف في اليوم التالي إلى حلب، ومن هناك توجهنا إلى قامشلو حيث وصلنا صبيحة اليوم الثاني من السفر، ثم اتجهنا مباشرة إلى القرية. كان في استقبالي، في دارنا، الكثيرمن الأقرباء. ما زلت أتذكر زغاريد وبكاء عماتي وخالاتي فرحاً برؤيتي. قبلت يد والدتي، بينما احتضنوني الرجال وهم يدققون النظر في شكلي وآثارتعذيب كل هذه الفترة على جسدي، غير مصدقين أنني بينهم. بدأ الجميع تدريجياً في الأيام التالية من عودتي بسرد بعض المواقف التي جرت معهم أثناء غيابي. فابنة عمي ووالدة يوسف والتي كانت تكبرني بأكثر من عشرين عاماً حكت لي عن والدتي ومدى صمودها طوال تلك الفترة لدرجة أنها كانت تغضب من نواح بعض النساء التي بدأن بزيارتها فورسماع خبراعتقالي (تبين لي فيما بعد أن الرفاق لم يخبروا أهلي إلا بعد شهرين، على أمل أن يطلق سراحي وحتى لا تقلق العائلة والأهل). ففي إحدى المرات قامت بطرد بعض النسوة من أقاربها اللواتي جئن لزيارتها وبدأن بالبكاء. نقل الجميع لي مقولة أمي المشهورة ” حينها والتي كانت ترددها مراراً ( الخروف الذكر, للذبح)
“Berxê nêr yê guranê ye”
يعني أن الشباب يجب أن يضحوا من أجل الحقوق والقيم، ابني فداء لكوردستان.كانت تطلب من الضيوف أن يرفعوا من معنوياتها والإفتخاربابنها عوضاً عن البكاء والحزن.
أما خالي أحمد حاج يوسف فقد روى لي محاولاته في دمشق لمعرفة أي خبر عني، مكان اعتقالي، وحالتي، وإيجاد وساطات للإفراج عني.على ما يبدو أن خالي سافر إلى دمشق برفقة أخي أحمد الذي كان يكبرني في السن بكثير، وأحد أعضاء مجلس الشعب من عرب البدو، والمحامي عبدالباقي صالح الذي كان يسكن في القامشلي منذ أمد (كان بالأصل من دمشق) ويشارك خالي في استئجار الأراضي وزراعتها. سافروا معاً إلى دمشق علهم يجدون منفذاً لإطلاق سراحي.على ما يبدو تمكن المحامي عبدالباقي صالح من ترتيب لقاء مع أمين العلي من خلال أحد معارفه والذي كان لواءً في الجيش. حسب الموعد المحدد إلتقى الأربعة مع النقيب أمين العلي في إحدى مطاعم دمشق. حسب ما قيل لي حينها بدأ اللقاء بالتعارف والترحيب ببعضهم البعض، وقبل نهاية الجلسة بادر عضو مجلس الشعب بمفاتحة النقيب بموضوعي، فكان رد النقيب عليه قاسياً ومهيناً لمكانته على ما يبدو. فما كان من الرجل إلا النهوض وترك الطاولة. عندها توجه المحامي نحو أمين العلي وشدد عليه. عرض الأخير على المحامي مساومة بموجبها يطلق سراحي مباشرة. كان عرضه أن يقوم المحامي بزيارتي والحصول على جواب سؤالين مني لا أكثر. حسب ما قيل لي حينها رفض المحامي عن هذه المساومة، معزياً ذلك الى عجزه عن نزع أي اعترافات مني ما دامت كل أساليب التعذيب القاسية التي ذكرها النقيب بنفسه لم تجدي نفعاً، واعتذر أن يكون محققاً بالنيابة عنهم. وبهذا الشكل فض اللقاء.
زارني المحامي عبدالباقي صالح بعد وصولي للبيت. أخبرني أنه جاء للترحيب بعودتي سالماً بين الأهل والأقارب وللتعرف على شخصي عن قرب.
تعرضت لعدة نوبات أخرى مشابهة لتلك الحالات التي أصابتني في السجن. أتذكر أن إحداها أصابتني في اليوم الثالث من عودتي بحدود الساعة العاشرة صباحاً، وكانت بمنتهى الشدة. أسرعت بالخروج من البيت كي لا تقلق والدتي من رؤيتي، وتوجهت نحو النهرالذي يبعد حوالي 300 مترمن دارنا. بعيداً عن الأنظار وخلف الأشجار بدأت بالتقلب ومحاولة استفراغ ما في معدتي. غسلت وجهي بعدها وتمددت على العشب الربيعي وتحت أشعة الشمس الدافئة أملاً أن يخف الألم.
كانت بداية مراجعاتي للكثير من أفكاري وتوجهاتي السياسية على ضوء ما توضح لي خلال هذه الفترة. هذه المراجعات كان لها تأثيراً جلياً على مسيرتي السياسية بعدها.
خوى بون : حبذا لو توضح لنا كيف أثرت هذه التجربة على مسيرتك السياسية فيما بعد؟
عبدالباقي يوسف : بالتأكيد. انتسبت الى الحزب اليساري الكوردي في أواخر عام 1969، في وقت كانت الأفكار اليسارية والشيوعية والشعارات الإشتراكية التي تتحدث عن حقوق الشعوب والطبقات الكادحة والفقيرة من قبيل “يا عمال العالم ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا”، تطغى الفضاء السياسي تحت هيمنة إعلام الإتحاد السوفيتي السابق،والحركة الشيوعية العالمية، وتبعث الأمل لدى الشعوب المضطهدة في معظم أنحاء العالم.ابتكرت الحركة الكوردية شعاراً خاصاً بها:”الدعوة إلى تعميق الأخوة العربية الكوردية”، ولا تزال بعض الفصائل الكورية تتبنى هذا الشعار متناسين من دون أن يدركوا أن شعاراً كهذا يمكن أن يكون مجدياً ومنطقياً وأكثر مصداقية لو تبنته الأحزاب العربية السورية والجهات التي بيدها القوة والسلطة وليس فقط الجهة الضعيفة والمضطهدة.
حسب تجربتي وفيما خص بالقضية الكوردية القومية وحقوق الشعب الكوردي، لم تختلف رؤية معظم النخب التي كان لي علاقة معها عن رؤية النظام. أبدى لي الكثير هذه المواقف مبكراً نتيجة تكليفي من قبل قيادة الحزب للإتصال مع بعض تلك القيادات، وإيصال منشورات الحزب إليهم. فقد عرّفني المرحوم ملا محمد نيو على السيد عبدالغني قنوت عضوالمكتب السياسي للحزب الناصري في عام 1973 عندما كنت طالباً في دمشق. من خلال النقاش معه، تبين أن رؤيته حول موضوع إعادة الجنسية السورية إلى الكورد المجردين منها لم يختلف عن رؤية النظام. الحزب الشيوعي جناح خالد بكداش كانوا أصلاً يتكابرون على الحركة الكوردية. كانوا يطالبون الكورد بالنضال معهم وفق أيديولوجية الحزب وسياسته من أجل نظام إشتراكي في سوريا، والذي سيضمن منح الحقوق للكورد. كنت ألتقي أيضاً مع يوسف نمر القيادي في الحزب الشيوعي جناح رياض الترك، يؤسفني القول أنه لم يكن لديهم أي تصور حتى عن الحقوق الثقافية للشعب الكوردي. ومع ذلك لم نأخذ وخاصة التيارات اليسارية الكوردية هذه المواقف بجدية أولم نعتبرها خطراً. انهار النظام الإشتراكي العالمي، ولم يحصل الكورد حتى على اعتراف بهويتهم القومية في سوريا.
خوى بون: أستاذ عبدالباقي كنت شاهداً على أحداث آذار2004 وحين انتفض الشعب السوري عام 2011 ,كيف كانت مواقف الأحزاب (المعارضة),مع الحركة السياسية الكوردية سيما وأنهم ربما وقفوا على الحياد أو مع السلطة في أحداث آذار2004 ؟
عبدالباقي يوسف : طبعاً الإنتفاضة السورية عام 2011 كانت حلقة أخرى تم فيها الكشف عن الكثير من النفاق السياسي لدى الأحزاب والدول الإقليمية، وكذلك معظم القوى الدولية، وكشفت جوهرالخطاب السياسي للنخب السياسية الحاكمة في تركيا وإيران والعديد من الدول العربية. كما أزاحت الستارعن حقيقة النظام البعثي في سوريا التي عايشها الشعب الكوردي وعرفها عن كثب على مدى عقود، وكشفت أيضاً مدى تلاعب النظام واستغلاله للشعارات القومية والطبقية والإجتماعية الشعبوية، وأن الدولة ليست لمواطنيها، وأنه ما تسمى بمؤسسات الدولة ما هي إلا مؤسسات تخدم النخبة الحاكمة والتي تستأثر بالسلطة. لعل أهم تجليات هذه الإنتفاضة هو نفاق ما سميت بالمعارضة الديمقراطية السورية والتي تبين أنها لا تختلف في أيديولوجيتها، واستراتيجياتها وحتى في معظم سياساتها عن النخبة الحاكمة إلا من الناحية العقائدية لحشد الفئات الشعبية. فالهدف السامي لها هو الفوز بالسلطة؛ قسم تحالف مع النظام تحت عنوان الدفاع عن الوطن، وقسم استسلم لنظام السلطان العثماني, وقل من حافظ على نفسه.
الإلتحاق بالثورة الكوردية في كوردستان العراق.
خوى بون : لنعود مرة أخرى إلى موضوع تأثيرتلك التجربة على توجهاتك ومسيرتك السياسية , ورغبتك في الإلتحاق بالثورة في كوردستان العراق,بماذا تحدثنا عن تلك التجربة؟
عبدالباقي يوسف: بعد نحو ثلاثة أسابيع من خروجي من السجن إلتقيت مع المرحوم عصمت سيدا عضو المكتب السياسي للحزب اليساري بناء على طلبه. أعلمني أن صلاح بدرالدين سكرتير الحزب حينها يريد أن أذهب إليه في بيروت وآخذ معي صورة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية ومصدقة من الخارجية السورية عن الشهادة الثانوية وأوراق أخرى لأن الرفاق في منظمة أوروبا أرادوا تأمين منحة دراسية لأتمكن من متابعة دراستي الجامعية، وكذلك لتلقي المعالجة الصحية. رغم رغبتي العارمة منذ مرحلة الإعدادية بدراسة درجة الدكتورا في الرياضيات في ألمانيا الغربية بعد إكمال دراستي الجامعية في دمشق.
في بيروت إلتقيت مع صلاح إلا أنني لم أقبل الطرح وطلبت من الرفيق بدلاً من هذا العرض إعطائي رسالة كي أذهب وألتحق بالثورة الكوردية في كوردستان العراق. فقد كان الكفاح المسلح قد استئنف من جديد جراء تراجع النظام البعثي الصدامي عن وعوده من إتفاقية 11 آذار عام 1970. رفض صلاح رغبتي في إلتحاقي بالثورة ولم يعطني رسالة تزكية.
أحدثت تجربة السجن تغيراً جوهرياً في رؤيتي، فالأخوة العربية الكوردية أصبحت محض خيال بعد تجربتي قبل السجن وداخل السجن، وأن النضال الديمقراطي السلمي في مرحلة الحرب الباردة، وفي ظل الأنظمة الدكتاتورية ومساندة الأنظمة الإشتراكية، والرأسمالية كل لحلفاءه من الدول النامية سدت الأفق أمام فعالية النضال الديمقراطي. أغضبتني تجربة السجن وماعانيته من تعذيب ومعاملة وحشية كثيراً، وتيقنت من أنه لا سبيل للتعامل مع هذه الوحشية البعثية إلا من خلال الكفاح المسلح. توجهت إلى قامشلو وذهبت إلى الرفيق ملا محمد نيو وعرضت عليه رغبتي هذه. وافق المرحوم على مساعدتي. عندها ذهبت إلى الحسكة، وعرضت الفكرة على صديقي محمد صالح هناك، والذي كان أيضاً متحمساً للفكرة. بعدها وبفترة قصيرة، توجهنا نحو كوردستان العراق ومعنا رسائل توصية من المرحوم ملا محمد نيو بأسمائنا.
المحطة الأولى كانت عند حجي قادو الذي كان يقود كتيبة من البيشمركة قريبة من نهر أزيل الذي يفصل كوردستان العراق عن كوردستان تركيا في تلك المنطقة. رحب بنا كثيراً واستقبلنا بقلب كبير, كان رجلاً شهماً. مكثنا عندهم عدة أيام, بعدها سافر معنا بصحبة حمايته إلى أن أوصلنا إلى مقر المرحوم أسعد خوشفي القائد العام لمنطقة بادينان، في كليي بامرني بجبل متينا. كان المرحوم من الشخصيات التي إلتجأت عام 1946 مع الزعيم الكوردي المرحوم ملا مصطفى البارزاني إلى الإتحاد السوفيتي عام 1946 م.
سأتطرق إلى الحديث عن تلك الرحلة والشخصيات التي إلتقينا بهم بالتفصيل في مناسبة أخرى، إلا أن ما أود ذكره هو أن أسعد خوشفي كان إنساناً كبيرالقلب وذو إحساس إنساني ملهم. تعامله أشعرني بإحساس الأب نحو أبناءه. رحب بنا بعد قراءة الرسالة الموجهة إليه، وجلس معنا عدة مرات في أوقات المساء في خيمة مدير مكتبه المرحوم ملا حمدي. كان يبدي الإرتياح وتقديره العالي لانضمامنا إلى صفوف البيشمركة.
في إحدى الأمسيات تحدث إلينا قائلاً أن لديه فكرة أخرى, قال لنا: أنتم شباب متعلمون وفي مقتبل العمر.هناك في كوردستان الكثير ليصبحوا بيشمركة، إلا أن ما تحتاجه كوردستان كثيراًهوالمتعلمين من أصحاب الشهادات الجامعية ومن المهندسين والأطباء. أقترح عليكم أن تكملوا تحصيلكم الجامعي ومن ثم العودة لمساعدة شعبكم. بعد نقاشات مسترسلة في أكثر من لقاء معه اقتنعنا بفكرته وقررنا العودة. فأرسل معنا مرافقين، وتوجهنا إلى مقرالمرحوم عيسى سوار للعودة إلى كوردستان سوريا. وفي 30 حزيران من عام 1975 وصلت إلى مدينة بون عاصمة ألمانيا الغربية حينها لابدأ مسيرة تحصيلي الجامعي هناك.