الحلقة “1”

  • “هل تعرف أين أنت الآن؟ أنت في سجن شيخ حسن، وإن لم تعرفه فإننا سنجعلك تعرفه ولن تنساه طوال حياتك، هذا إذا ما حالفك الحظ وخرجت حيًّا!”.
  • كان الرفيقان القياديان يوسف ديبو وعادل زوزاني في هذا السجن أواخر عام 1973، قبل أن يتم نقلهم إلى سجن القلعة، ولكن لم يكن لدي أي معلومات عن ذلك السجن الذي كانوا يهددونني به.
  • داخل الزنزانة يكون المعتقل منقطع عن العالم الخارجي، إذ لا يوجد راديو أوجريدة. كنا نتلهف لقراءة الورق التي تلف بها السندويش ولا نرميها. وكنت أضعها تحت البطانية لتعزلها من شدة برودة الدكة.
  • عند قراءته لما كتبت، انقلب من “التعامل الأوروبي” إلى وحش هائج، جن جنونه وقال “مبين انك مانك فاهمني ولا فهمان مصلحتك. انا راح ورجيك كيف تحكي الحقيقة”.
  • صفعني كفين ثم رفسني في أسفل البطن وصاح: “خذوا هالكلب وخلوه يموت بالسجن”.
  • من الشخصية تبين لي أن معلومات الأجهزة الأمنية شحيحة عن الأحزاب الكوردية، وأن عناصر الأمن غير كفوئين، وطرق وأساليب التحقيق عشوائية وهمجية تعتمد بشكل أساسي على التعذيب والترهيب، وأن عناصر الأمن يفتقرون إلى الإحساس الإنساني والمواطنة، ويعتبرون المعارضين خونة، والكورد في نظرهم يجب أن يصهروا، فهم ليسوا أقل خطرًا من إسرائيل حسب اعتقادهم.
  • قال لنا أسعد خوشفي: هناك في كوردستان الكثير ليصبحوا بيشمركة، إلا أن ما تحتاجه كوردستان كثيراًهوالمتعلمين من أصحاب الشهادات الجامعية ومن المهندسين والأطباء. أقترح عليكم أن تكملوا تحصيلكم الجامعي ومن ثم العودة لمساعدة شعبكم.

خوى بون : كانت الاعتقالات السمة المميزة لتاريخ الحركة السياسية الكوردية في سوريا وتعامل السلطات مع السياسيين الكورد منذ بدايات تأسيس أول تنظيم سياسي كوردي.
الأستاذ عبد الباقي يوسف كنت أحد الأشخاص الذين تعرضوا للإعتقال حين كنت طالباً في بداية السبعينات. حبذا لو نستذكر معك تفاصيل اعتقالك لأول مرة.

عبد الباقي يوسف: شكراً على هذه الإستضافة. نعم تلك هي الحقيقة، كما تفضلت، فقد تعرض السياسيون والطلاب الكورد وكل من عمل في المجال السياسي , خاصة الاعتقالات، ومنهم من قضى سنوات طويلة من أعمارهم في السجون. هنا أود ذكرأنه بالرغم من أن الإنتفاضة السورية عام 2011 أسدلت الستارعن وحشية النظام مع معارضيه وحقيقة نفاقه وشعاراته، إلا أن الشعب الكوردي في كوردستان سوريا والكثير من فصائله السياسية عايشوا وعانوا هذه الوحشية اللامتناهية لعقود سبقت هذا التاريخ.
في عام 1974، كنت طالباً في المعهد الهندسي للكهرباء واللاسلكي في دمشق/سنة ثانية، عندما جاءني الرفيق صالح ولو. لم أكن أعرفه سابقاً، لكنه كان يحمل رسالة من عضو المكتب السياسي للحزب اليساري الكوردي، المرحوم ملا محمد نيو. كنت على علم أن أحد الرفاق من حلب سيأتي لجلب البريد الحزبي. كان صالح ولو يدرس في كلية الطب بجامعة حلب، والبريد كان يتكون من كراسات للتقريرالسياسي المقدم إلى الكردية. (Serkewtin)المؤتمر الثالث للحزب اليساري، وروزنامة لفرقة سَركَوتن
كان البريد ثقيلاً، وكان الرفيق صالح نحيف البنية، وحرصًا مني على سلامة الرفيق وسلامة البريد، أخذت على عاتقي مسؤولية الإهتمام بالشنطة (حقيبة البريد)، كان معنا أيضا الرفيق جلال عيسى.
بينما كان الرفيق صالح قد ذهب لشراء تذكرة للباص، بادرت بوضع الحقيبة فوق سطح الحافلة “الهوب هوب”. كان الكراج في ذلك الوقت في حي الحجاز. كنا قد افترقنا عند مدخل الكراج حسب الخطة التي لم تكتمل بالنجاح. صالح ذهب لشراء التذكرة وأنا أخذت الشنطة إلى الحافلة، والرفيق جلال يراقب الوضع. شعر معاون الباص بالوزن الثقيل للشنطة عندما حاول رفعها إلى سطح الباص، فطلب مني فتح الشنطة، فقلت له “هي مجموعة من كتبي فأنا طالب وأود الذهاب إلى الجزيرة”، لكنه أصر على فتح الشنطة. تظاهرت أنني أبحث عن المفتاح في جيوبي، وفي هذه الأثناء وعند حديثي مع المعاون تفاجأت بوجود شخصين باللباس المدني، فأمسكوني وأخذوني إلى إحدى المكاتب بينما المعاون حمل الشنطة. خلف الطاولة كان يجلس ضابط برتبة نقيب، أخبروه بأن الراكب يرفض فتح الشنطة، وعندما سألني عن سبب رفضي، قلت له: “أنا لم أرفض، لكني لم أعثر على المفتاح وربما سقط من جيبي أو نسيته في الغرفة”. عندها أمر الضابط بكسر القفل. عندما فتحوا الحقيبة أعطوا للضابط إحدى تلك الكراسات. من قراءته للعنوان قال الضابط “هذا ليس اختصاصنا!”. حينها اتصل بالأمن السياسي وأخبرهم بالأمر، وبعد نحو نصف ساعة، قدمت دورية وأخذوني إلى دائرة الأمن السياسي، ومن هناك أرسلوني إلى سجن لا أعرفه.
أصبح الوقت مساءً، واستلم المناوبون في السجن المعلومات الشخصية الأولية مني بعد أن أخذوا جميع الأشياء التي أحملها، باستثناء الساعة والنقود. ألقوني في زنزانة ورموا عليّ ثلاث بطانيات قديمة، مهترئة ومتسخة. (ومنذ ذلك الحين، ورغم مرور خمسين سنة، ما زلت أتوجس من التغطية بالبطانيات حتى في البيت، بغض النظر عن جودتها أو نظافتها). لم أعرف النوم في تلك الليلة، باستثناء بعض اللحظات التي غفوت فيها مرة أو مرتين. كنت أُفكر وأستذكر وأراجع إفادتي التي نسجتها في مخيلتي عندما أوقفتني المكافحة، حتى لا تبقى فيها ثغرات وتبدو متماسكة، ولكيلا أؤذي بها الرفاق الذين كانوا معي في الكراج، وكذلك المنظمة الحزبية عند مواجهة المحققين.
خوى بون: أستاذ عبد الباقي، قلت إنك نسجت في مخيلتك رواية تقنع فيها المحققين. كيف جرت عملية التحقيق وكيف كان تعامل عناصر الأمن معك؟ وهل صدقوا روايتك، خاصةً وأنك كنت طالبًا في السنة الثانية، يعني شابًا في العشرين من العمر؟
عبد الباقي يوسف: صحيح، حاولت قدر الإمكان أن أتمسك بروايتي وألا أضيف أو أنقص شيئًا. في صباح اليوم الثاني، أُخرِجت من الزنزانة وأخذوني إلى قسم التحقيق. كان هناك شخصان في المكتب وسألوني عن اسمي وعملي وأين أدرس. طلبوا لي كأسًا من الشاي، وبعد أن شربت الشاي بدأ التحقيق. بدأت أسرد لهم القصة التي نسجتها: “في العطلة الانتصافية، ذهبت إلى بيروت كي أعمل وأوفر بعض المال. هناك تعرفت على شخص كوردي ساعدني كثيرًا. كانوا ينادونه أبوعلي، وعندما تركت العمل ونويت الرجوع إلى الشام، طلب مني أن آخذ بعض الأغراض لأحد أصدقائه وأنه سيكون بانتظاري في كراج الحجازعند وصولي إلى هناك. كما أعطاني مبلغ 50 ليرة سورية، ورغم رفضي لذلك إلا أنه أصرووضعها في جيبي، وفعلاً، أحضر الشنطة ووضعها في السيارة التي جئت بها إلى دمشق”.
أبدوا عدم قناعتهم بروايتي وأعطوني ورقة وقلم لأكتب قصتي بعد أن هددوني بمستقبلي وبدراستي، وقالوا لي: “هل تعرف أين أنت الآن؟ أنت في سجن شيخ حسن، وإن لم تعرفه فإننا سنجعلك تعرفه ولن تنساه طوال حياتك، هذا إذا ما حالفك الحظ وخرجت حيًّا”!.
خوى بون: هل كنت سمعت من قبل باسم سجن شيخ حسن، وأين يقع هذا السجن وكيف تصف تعامل المحقق والعناصرالموجودين معك؟ هل تتذكر أنواع العقوبات وصنوف التعذيب التي كانوا يمارسونها بحق المساجين، خاصة السياسيين منهم؟
عبدالباقي يوسف: بدايةً، تذكرت اسم سجن الشيخ حسن، لأنه، بسحب ما أخبرنا به الحزب حينها، كان الرفيقان القياديان يوسف ديبو وعادل زوزاني في هذا السجن أواخر عام 1973، قبل أن يتم نقلهم إلى سجن القلعة، ولكن لم يكن لدي أي معلومات عن ذلك السجن الذي كانوا يهددونني به.
أجلسوني بجانب طاولة مجاورة، وبدأت أكتب القصة التي سردتها. وعندما قرأها المحقق هاج ومزق الورقة، صاح قائلاً: “مبين أنه رأسك يابس، راح نكسرلك ياه. يللي يكبر راس ما بيطلع من هون قبل ما يعترف بكل شي.” ثم أخذوني إلى خارج المكتب الى ساحة داخل السجن وطلبوا من العناصر جلب العدة، وبدأوا الضرب بالكفوف واللكمات والرفس.
طلبوا مني أن أخلع ثيابي ولم يبق سوى الشورت الداخلي (الكلسون). أدخلوا رأسي ورجلي حتى أسفل الركبة في الدولاب وألقوني على ظهري، وبدأوا الضرب بالخيزران والكرباج على أسفل رجلي. كلما تعب أحدهم يستبدل بعنصرآخر، مبتدئًا بالمسبات ثم يقول: “أحسنلك تعترف يا ولد، وإلا راح نقتلك.” ثم يتابع الضرب. بعد الإنتهاء من جولة الدولاب، أخذوني إلى فسحة أخرى مجاورة فيها نافورة ماء بقطرأكبر من مترين وطلبوا مني أن أهرول حولها. كلما أكملت دورة لأصل أمام الشرطي، يناولني ضرباً بالخيزران على ظهري. بعد إنهاء الجولة، ناولني الشرطي ثيابي لألبسها. لازلت أتذكر أنني لم أستطع أن أدخل قدمي في الحذاء، فحملته بيدي. ثم أرجعوني إلى الزنزانة. من الصعب بمكان أن أصف النوم بعد هذا الضرب المبرح، فلم يبق أي جزء من جسدي من دون أن يأخذ نصيبه من التعذيب والضرب. كان هذا الأسلوب في التعذيب يحدث شبه يوميًا. في إحدى المرات قاموا بتعريضي للصعقات الكهربائية، مما فقدت الوعي للحظات لشدة الصدمة.
في أحد الأيام، وبعد الجلد في الدولاب، ومن ثم الركض حول البركة وجلد ظهري بالخيزران، نادوا الشرطي. كلف الشرطي مهمة تعذيبي لحارس كان هناك، بعد أن علمه كيف يرش الماء ويضرب بالخيزران. بعد أن ذهب الشرطي، بدأ يظهرأن المجند كان يشفق على حالتي. كان ضربه أقل حدة وأحيانًا يضرب في الهواء من دون أن يلمس جسدي. يبدو أن الشرطي لاحظ ذلك حين عودته، مما تهجم على الحارس وأمطره بوابل من المسبات (أعتقد أن الحارس كان مجنداً).
خوى بون: شاب في العشرين من العمر ذاق صنوف العذاب، كيف كانت الحياة داخل الزنزانة؟ هل كان التعذيب طريقاً للتحمل والصبر؟ وهل توقف التعذيب فيما بعد؟
عبدالباقي يوسف: يقع سجن الشيخ حسن على الشارع الممتد من أمام سوق الحميدية إلى ميدان باب مصلى، وبالتحديد في الزاوية الشمالية الغربية لمقبرة الشيخ حسن، ولهذا سُمي بهذا الاسم. كونه بني في العهد العثماني، فقد كان يعرف السجن سابقاً بالـ “كراكون”، وهي كلمة تركية. الزنزانة مخصصة لشخص واحد، وهي بطول نحو مترين وعرض نحو 1.4 م. فيها دكة اسمنتية وتواليت وصنبورماء، وباب حديدي يُغلق بمنزلق من الخارج. وفي الباب توجد كوة تفتح وتغلق أيضًا من الخارج، فيها ثلاث ثقوب للإضاءة ليلاً وتستخدم لمراقبة السجين وإعطاءه الطعام من خلالها. في الجهة المقابلة، هناك كوة كبيرة بأبعاد نحو 50 × 80 سم فيها قضبان حديدية سميكة ومتقاطعة، بحيث لا يستطيع الإنسان الخروج منها, لذلك في الشتاء يكون شديد البرودة.
في كل صباح يأتي الشرطي ليسجل قائمة الأكل للسجناء. اختصر الطعام على الوجبات الباردة والناشفة. ومخصصات المعتقل كانت ليرة ونصف الليرة لليوم الواحد. فإن زاد الطلب عن ذلك المبلغ يقع على المعتقل دفع الفارق، وإن نقص كان يُعطى له الفارق. الفساد والسرقة كانتا موجودتان داخل الزنزانة، فكان هناك شرطيان للخدمة. تبين من خلال الفواتير المتكررة في النوع والكمية نفسه، أن أحدهما كان يختلس من كل فاتورة ربع ليرة وأكثر حسب قيمة الفاتورة.
داخل الزنزانة يكون المعتقل منقطع عن العالم الخارجي، إذ لا يوجد راديو أوجريدة. كنا نتلهف لقراءة الورق التي تلف بها السندويش ولا نرميها. وكنت أضعها تحت البطانية لتعزلها من شدة برودة الدكة. ولم نكن نتجرأ الحديث مع بعضنا البعض، فقط في الليل عندما يهدأ السجن من رجال الأمن والشرطة كان بالإمكان الحديث مع المعتقل الذي يقابلك أوالذي بجوارك لكن بصوت خافت يكاد لا يسمع تحسبًا من عناصر الأمن ولسانهم الزفرالذين كانوا أحيانًا يتجسسون على المعتقلين.
كنت أسمع أحيانًا أغاني من راديو الحارس في نقطة المراقبة والتي كانت قريبة لزنزانتي. كم كانت آذاني ترتاح على سماعه، بالرغم من آلام جسدي الناتجة من شدة التعذيب. لسوء الحظ، في أحد الأيام وبخ الشرطي الحارس بعد أن سمع صوت الراديو، وبعدها لم أعد أسمع الموسيقى أو الراديو.

كأس الشاي الثاني
خوى بون: يلجأ المحققون إلى الحيل والمراوغة في التحقيق مع المعتقلين الذين يصرون على إفاداتهم ويتحملون العذاب والضرب، هل صادفت ذلك أثناء التحقيق؟
عبدالباقي يوسف:
بالتأكيد، كثيراً ما يلجأ المحققون إلى مختلف طرق التلاعب بسيكولوجيا المعتقلين لدفعهم نحو الإعتراف. في اليوم الثامن عشر على اعتقالي وبحدود الساعة العاشرة، فتحوا باب الزنزانة وطلب الشرطي مني الخروج، تصورت أنها جولة معتادة للضرب والتعذيب، خاصةً وفي اليوم الذي سبقه لم يأخذوني إلى التعذيب. إلا إنهم في هذه المرة اقتادوني إلى مكتب آخر بجانب الفسحة التي كانت تتوسطها بركة الماء. كانت الغرفة شبه مظلمة، حيث وقع نظري على شخص يلبس قميصًا أبيضاً جالساً في آخرها. ناداني الشخص المذكور وطلب مني أن أقترب منه وأجلسني على كرسي أمام الطاولة التي كان يجلس خلفها. عرفت فيما بعد أن لقبه بكاري. طلب بإحضار كأس شاي لي وقدم لي سيجارة. شكرته وأخبرته أنني لا أدخن. مازلت أتذكر مدى استمتاعي بذاك الكأس، حيث أنني لم أكن قد تناولت أية سوائل ساخنة منذ ما يقارب الثلاثة أسابيع.
فاتحني الحديث وقال أعرف أنك طالب تدرس في دمشق وأعرف أن الجماعة قد عذبوك كثيراً، أما أنا فلست مثلهم، وسأحقق معك حسب النموذج الأوروبي. أتمنى أن تفهمني وتقدر مصلحتك ومصلحة الوطن، بعدها طلب مني أن أتحدث بصراحة عن علاقتي بهذا البريد ومع الحزب اليساري الكوردي وأذكر له من أعرفهم. بدأت أسرد له ما حصل معي، وأنه ليس لي علاقة مع أي حزب سياسي. أبدى استغرابه وعدم اقتناعه بحديثي، وناولني ورقة وقلم وطلب مني أن أذهب الى الطاولة المجاورة، وأكتب. أخذت الورقة والقلم وكتبت ما أسردت له سابقاً. عند قراءته لما كتبت، انقلب من “التعامل الأوروبي” إلى وحش هائج، جن جنونه وقال “مبين انك مانك فاهمني ولا فهمان مصلحتك. أنا راح ورجيك كيف تحكي الحقيقة.” نادى لزبانيته وأخذوني إلى المكان المعتاد، وأحضروا العدة، وكان معه شخص طويل القامة وضخم الجسد، أسمر اللون وعلى إحدى خديه شامة سوداء على لون وحجم ذبابة كبيرة. بدأت الجولة بالتهديد والوعيد، ثم بدأ الضرب. بعد أن تعب المحقق “الأوروبي”، تسلم المهمة المعاون صاحب الشامة السوداء. رفع الكرباج وهو يقول “اعترف يا ولد, إذا ما اعترفت اليوم، راح جيب نهايتك”، وبدأ بالضرب. لم أكن أبكي أوأتوسل، اختصر رد فعلي على الأنين، الأمر الذي زاد من عنفهم اللغوي وهمجيتهم في التعذيب. عندما تعب المرافق تسلم المحقق الضرب من جديد، مستكملاً بالرفس.لا أتذكر ما حدث بعد هذا، إذ أنني فتحت عيناي وأنا طريح الفراش في مشفى، تبين لي فيما بعد أنه كان مشفى المجتهد.
في الطريق وبينما كنت منهمكاً بآلام جسدي وقفت السيارة وبدؤوا بالنزول إلا عنصر واحد بيده سلاح وقف إلى جانب السيارة ,عندها فهمت أنهم الآن أمام الدار الذي كنت فيه مستأجراً، وسيداهمون غرفتي، لم يمضي الكثيرمن الوقت,حتى شاهدت أنهم اقتادوا كل من صالح خابوري وجلال عيسى ومحفوظ إلى السيارة، كانوا طلاب كورد مستأجرين في الدار نفسه، ولم يقتربوا إلى طلاب آخرين كانوا من الساحل، عندما أدخلوا الشباب في السيارة وبصوت خافت مع رفع قبضة اليد قلت لهم بالكوردية :لا تخافوا ليس لديهم أي شيء ضدكم، في هذه اللحظة شاهد أحد العناصروأنا رافع قبضتي ولم يفهم ما قلته, فأمطرني بوابل من المسبات، وقال “هلا راح تشوف كيف بدنا نكسرلك إيدك”، النتيجة وبعد تهديد وفلقة لكل منهم لم يحصلوا على أية معلومات تفيدهم، فأطلقوا سراحهم بعد عدة ساعات ,بحسب ما أخبروني فيما بعد.
لم يتوقف التعذيب عند هذه الجولة سوى لعدة أيام، وذلك بسبب التشققات التي أصابت أسفل قدمي. بعدها عاودوا التعذيب الذي لم يختصرعلى الضرب والإهانات، بل أسهبوا في اتباع شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي. فمثلاً كثيراً ما كانوا يأخذون حتى تلك البطانيات القديمة والمهترئة ويتركونني معرضاً للبرد. لسوء حظي، صادفت الفترة هذه شتاء سنة 1974، حيث أنني أتذكر أن ذلك الشتاء شهد تساقط الثلوج عدة مرات. هذا ما لاحظته عندما أخرجوني الى التنفس (التنفس في لغة السجن هو تحرك السجين، والمشي حول بناء الزنزانات عدة مرات، مدتها نحو خمسة دقائق). أتذكر جيداً إحدى الليالي شديدة البرودة، أنهم لم يكتفوا بأخذ البطانيات، بل ونزعوا عني اللباس ولم يبق ما يسترني سوى لباسي الداخلي (الكلسون). كدت أتجمد من شدة البرد وذلك بالتزامن مع ضربي المتكرر على باب الزنزانة. أخيراً أعادوا لي اللباس والبطانيات، وأعطوني هذه المرة بطانية إضافية.

النقل إلى الجماعية
خوى بون: كم مكثت في زنزانتك؟ ألم تنتقل إلى الزنزانة الجماعية وهل كان التعذيب مستمراً طوال الفترة الماضية؟
عبدالباقي يوسف :
بعد قضاء أكثر من ثلاثة أشهر في الزنزانة وبسبب شدة المرض في جهازي التنفسي، أخذوني إلى الطبيب. كانت العيادة في بناء تابع لوزارة الداخلية، قريبة من ساحة المرجة. أتذكر كان الطبيب برتبة عقيد. بعد إجراء بعض الفحوصات، وصف لي عدة أدوية. بعدها تم إعادتي إلى الزنزانة، لكن مدة التنفس زادت وأصبحت نحو نصف ساعة أو أكثر. بعدها بأيام نقلوني إلى غرفة فيها ثلاثة أشخاص، شابان ورجل في أواخر الخمسينيات من عمره. أحد الشباب كان المرحوم بندرعبد الحميد، طالب جامعي من محافظة الحسكة ورئيس تحرير مجلة جيل الثورة. الثاني كان من محافظة الرقة، أيضاً طالب جامعي في كلية الفنون، ومصمم لغلاف المجلة المذكورة. أما الثالث كان اسمه توفيق المحايري، كان ناصرياً، ونقيب في مخابرات الجيش في عهد الوحدة مع مصر حسب قوله. لم يكن يخجل من التفاخر بمشاركته في تعذيب الشيوعيين السوريين في منصبه ذاك حينها.
تم نقلي إلى الجماعية بعد أسبوع, ثم أعادوني مرة أخرى إلى الزنزانة لنحو ستة أيام، وتعرضت لجولتي تعذيب، لكن أقل حدة من الجولات السابقة, ثم عدت إلى الجماعية. تبين لي فيما بعد ومن خلال تهديدات الشرطي أن المحايري كان قد أخبرهم عن حديث جرى بيننا في اليوم الأول. ما أتذكره من المحادثة هو أنه كان ينصحني بأن أعترف بأسماء رفاقي و”لتبكي مئة أم ولا تبكي أُمي” حسب وصفه. كان ردي حينها أن ضميري وأخلاقي لا يسمحان لي أن أتهم أناساً أبرياء، وأنه لا سبيل لي سوى التحمل والصمود.أظن أنه قام بنقل القسم الأخير من كلامي.
اللقاء مع أمين العلي رئيس قسم التحقيق في إدارة الأمن السياسي
خوى بون: ألم يكن هناك نقطة طبية في الزنزانة؟ هل تغيرت المعاملة القاسية معك بعد سوء حالتك الصحية؟
عبدالباقي يوسف :
عندما أعادوني إلى الزنزانة كان ألم إلتهاب القصبات قد ازداد شدة. وبالتزامن بدأت أعاني من أزمة أخرى لم أستطع تشخيصها. كانت على شكل نوبات تدوم لعدة ساعات تبدأ بألم حاد في أسفل البطن من جهة اليمين وينتقل إلى المعدة وبشكل حاد إلى درجة أنني كنت أخبط جسمي بجدار الزنزانة. بعد عدة أيام من إعادتي إلى الجماعية، تعرضت لنوبة أخرى حادة جداً، لدرجة أنني اضطررت للتقلب على ظهري وأراجع ما في المعدة كي يخف الألم. توقع بندر أن يكون إلتهاب الزائدة الدودية. أتذكر مدى تأثر بندر بحالتي. أما القحة الشديدة ليلاً المرافقة لإلتهاب القصبات لم تدع أحداً ينام في الجماعية.
بعد بضعة أيام جاءني شرطي أخبرني أن النقيب أمين العلي يريد أن يراني. رافقني الشرطي إلى بهو السجن حيث كان أمين العلي يتمشى. وبعد أن سلمت عليه سألني: “أنت عبد الباقي يوسف؟ هل من جديد، هل تريد أن تعترف بشيء ما؟”. جاوبته أنني كنت قد أخبرت المحققين بكل ما جرى لي وأنه لا جديد لدي, فرد: “ومع ذلك تريد أن نعالجك.” بينما كنت أقول له أنني لم أطلب شيء من هذا القبيل، وقبل أن أنهي كلامي صفعني كفين ثم رفسني في أسفل البطن وصاح: “خذوا هالكلب وخلوه يموت بالسجن”. علمت فيما بعد ان بندر كان قد طلب ترتيب ذاك اللقاء مع مسؤول السجن وضرورة أخذي الى الطبيب ومعالجتي، أونقلي إلى مكان آخر، ولم يستشرني بندر نيته من طلب اللقاء مع المسؤول.
في عام 1992 م عندما اعتقلت في المرة الثانية من قبل الأمن السياسي وتم نقلي إلى سجن عدرا المركزي، تعرفت على سجناء من حزب العمل الشيوعي، وناصريين ومن الحزب الشيوعي جناح المكتب السياسي. سمعت منهم أن أمين العلي كان برتبة عميد ومسؤول فرع الفيحاء للأمن السياسي، وأنه كان قد وجد ميتاً في دورة المياه “التواليت” بسبب نوبة قلبية.