جوان ديبو
مؤلف هذا الكتاب سياسي كردي من سوريا، لم يكن مجرد شاهد ومعاصر للعديد من الأحداث الساخنة التي شهدتها الساحتان الكردية والسورية، وإنما كان في بعض المحطات من المساهمين في صناعتها أيضاً. انخرط منذ ريعان شبابه بصفوف الحركة الوطنية الكردية في سوريا من خلال الانضمام إلى “الحزب اليساري الكردي في سوريا” سنة1970، ومن ثم تبوأ منصبا قياديا في حزب اتحاد الشعب الكردي في سوريا الذي تأسس سنة 1980، ولاحقا قياديا في حزب يكيتي الكردي في سوريا، ومنذ 2021يشغل منصب رئيس “حراك خوبون” في كردستان سوريا. تعرض للاعتقال مرتين من قبل أجهزة النظام السوري في 1974 عندما كان طالبا جامعيا وفي 1992، ومكث في سجون النظام لحوالي سنتين وخمسة أشهر، وهو حائز على الماجستير في هندسة الاتصالات اللاسلكية من أوديسا بأوكرانيا سنة 1981.
يروم الكتاب الصادر عن مركز آشتي ودار الزمان سنة 2017 والذي يتكون من ستة أبواب (24 فصلا)، وتبلغ عدد صفحاته 404 صفحة مع الملاحق والمصادر والمراجع، تقديم بحث معمق وموسع للحالة المأساوية المزرية التي آلت إليها الأوضاع في سوريا منذ ما يسميه الكاتب بالانفجار في 2011 وإلى الآن. ويعمد الكاتب إلى تناول المراحل التاريخية السابقة لسوريا بإسهاب من خلال الاعتماد على المنهجين التوثيقي السردي (الوصفي)، والتحليلي النقدي، بغية تسهيل مهمة فهم ما جرى ويجري في سوريا منذ 2011.
موضوع الكتاب كما هو واضح من خلال العنوان، وكذلك من خلال المقدمة والمتن، هو تناول الأزمة السورية الراهنة، التي يسميها الكاتب بالانتفاضة أحيانا وبالثورة أحيانا أخرى، والتي انفجرت في 2011 ومازالت قائمة ومستفحلة ضمن سياقها التاريخي والسياسي والإداري تسهيلا للقارئ على فهم واستيعاب الأسباب والعوامل التي أدت إلى الانفجار الرهيب في 2011، بطبيعة الحال من وجهة نظر كردية سورية. بالإضافة إلى إلقاء النور على كردستان سوريا (غرب كردستان) ضمن الإطار التاريخي والسياسي المناسب، وكيفية إلحاق هذا الجزء من كردستان بالدولة السورية الناشئة أواخر عشرينيات القرن الماضي ليدشن بذلك فصلا جديدا من فصول المأساة الكردية التي ولدت إبان الحرب العالمية الأولى والتي مازالت مستمرة إلى الآن. هذا ما عدا دراسة الدور الكردي في المعضلة السورية التي بدأت منذ 2011 والمستمرة إلى الآن. وفي هذا السياق، يخرج الكاتب عن المألوف والسائد كرديا، وهو تبرئة الذات أو الذوات الكردية المتضاربة وتجريم الآخر وتحميله وحده مسؤولية ولادة وتفاقم المعضلة الكردية، حيث لا يتورع عن الكشف عن الدور الكردي التاريخي في ولادة التراجيديا الكردية وذلك بسبب الشقاق، والتشرذم المجتمعي والسياسي والقراءة السياسية البدائية للأحداث والاستشراف الواهن للمستقبل، ويحذو نفس الحذو إزاء تعاطي القوى السياسية الكردية في سوريا مع الأزمة الراهنة ومخلفاتها. يقول الكاتب في المقدمة “ابتغيت من هذا العمل أن يكون معونا لفهم اللغز السوري كي لا تتكرر التجارب الفاشلة، وألا تعود الحروب الداخلية مستقبلا، بسبب فقدان الثقة، وعدم القبول بالآخر”.
قام الكاتب بجمع مادة الكتاب من عديد المصادر التي تتناول الشأنين السوري والكردي في سياقهما التاريخي والسياسي والإداري. وبذل جهدا لا يستهان به في المقاربات والمقارنات بين الماضي والحاضر، وكيف أن المأساة (الانفجار) تتكرر دون عناء ومن تلقاء نفسها منذ أكثر من قرن، مأساة التشبث بالمركزية التي تعني حكما الاستبداد وقمع الآخر المختلف قوميا وطائفيا وفكريا وسياسيا، ومعضلة الهوية، والنفور من الفيدرالية، وتقديمها من قبل غلاة القوميين والعروبيين والطائفيين على أنها شيطان غربي داهم يستهدف تقسيم المقسم.
عندما يصل القارئ إلى الباب الرابع من الكتاب والمستمد منه العنوان “الانفجار السوري”، يشعر وكأن اندهاشه من حدوث الانفجار السوري في 2011 والذي مازالت شظاياه تتبعثر هنا وهناك قد تلاشى وتبخر، وأن ما حدث ويحدث هو نتيجة منطقية للمراحل السابقة التي مرت بها سوريا الهجينة المصطنعة المركبة قسريا وفق إرادات الآخرين ما عدا الأغلبية التي انضوت تحت لوائها قهريا. بالإضافة إلى أن فتيل الانفجار الحالي يعود بجذوره إلى أكثر من قرن، وأن الانفجار الراهن ما هو إلا حلقة من مسلسل الانفجارات المتتالية التي عصفت بسوريا المولودة قيصريا وقسريا، فكل انقلاب شهدته سوريا وكل مجزرة قامت بها الأنظمة المتعاقبة وخاصة نظام الأسدين الأب والابن بحق السوريين والمعارضين، وكذلك تلك التي قامت بها المعارضات السورية المتعارضة منذ 2011 وخاصة تلك التي تعمل لصالح الأجندات التركية في سوريا والمنطقة، لم تكن سوى انفجارات تعكس جوانب من الاختلالات الحضارية والفكرية والمجتمعيةوالسياسية والإدارية التي ابتلي بها المولود المشوه وحكامه المتعاقبون والمصابون بمتلازمة الاستبداد والإقصاء والتهميش والقمع والتنكيل، ولا سيما نظام الأسدين، المورث والوارث.
الغاية من تسليط الأضواء الباهرة على المراحل التاريخية السابقة ابتداء من نشوء “الدولة السورية” والمراحل اللاحقة وصولا إلى انقلاب البعث سنة 1963 وانقلاب حافظ الأسد سنة 1970 هي تحفيز القارئ على إجراء المقارنات بين الماضيين البعيد والقريب من ناحية وبين الحاضر التعيس من ناحية أخرى. وكيف أن الصور تتشابه في المضمون وأن المأساة تعيد إنتاج نفسها دون عناء يذكر، مأساة التشبث بالمركزية التي تفرخ الاستبداد ومأساة إقصاء وتهميش الآخر المتباين من حيث القومية والدين والمذهب والفكر والمنطقة. وينجح الكاتب بشكل واقعي وجذاب بإسقاط ما حدث في سوريا ما بعد الحرب العالمية الأولى من حيث رفض أعضاء “الكتلة الوطنية” لمشروع الفيدرالية الفرنسي على الوضع الراهن من حيث رفض نظام الأسد والمعارضات السورية المتعادية لخيار الفيدرالية. هذه العدائية للفيدرالية تعتبر القاسم المشترك الأبرز والأخطر بين نظام الأسد والمعارضات السورية المتعارضة، ولاسيما تلك التي تنفذ الأجندات التركية في سوريا. إن عقدة رفض الفيدرالية وعقدة الوله بالمركزية موغلة في القدم ومرتبطة ارتباطا عضويا وثيقا بالثقافة والحضارة السائدة التي تلخص الجنوح الجارف والكامن لدى مختلف الطوائف والمكونات نحو الاستبداد والتحكم بمصائر المكونات الأخرى وباقتصادات ومصائر البلدان التي تتحول إلى مزارع وممتلكات خاصة للحاكمين المالكين. إن ديدن المؤلف من السياق التاريخي والسياسي والثقافي المكثف هو المقارنة بين الماضي والحاضر والتي لا تختلف في الجوهر، وهذا يعتبر من نقاط قوة البحث ويضيف عليه المزيد من الأهمية والجاذبية.
الغريب والمألوف والطريف في الأمر أن العوائق التي حالت دون ولادة دولة المواطنة في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية هي نفس العوائق هذه الأيام، وكأن أسباب وعوامل ومحددات التخلف والانحطاط الثقافي والفكري والسياسي تعيد إنتاج نفسها بمهارة نادرة واجترار فريد، هذه الظاهرة التي تستأهل تخصيص عشرات الأبحاث لتناولها.
الكتاب ضمن الأبحاث العلمية قليلة العدد التي تناولت القضية الكردية في سوريا في سياقها التاريخي والسياسي والإداري
تعتري الكتاب بعض الملاحظات وأهمها: تأرجح الكاتب في تسمية ما يجري في سوريا منذ 2011 بين الانتفاضة تارة والثورة تارة أخرى دون تقديم التعليل المنطقي وراء هذا التأرجح أو طرح رؤية، حتى ولو سريعة، حول الفرق بين المصطلحين. والأهم من ذلك، أنه لا يشير البتة إلى هوية الانتفاضة أو الثورة التي يجزم بوجودها منذ 2011، هل هي انتفاضة أم ثورة وطنية جامعة من أجل الحرية والديمقراطية والتعددية أم هي انتفاضة وثورة إسلامية سنية بدليل هيمنة الفصائل والشخصيات الإسلامية السنية المتطرفة على كافة الفصائل السياسية والمسلحة البارزة والموجودة على الأرض، ولاسيما تلك التابعة لتركيا الأردوغانية. فالمشكلة هنا لا تكمن فيما إذا كان وصف ما يحدث منذ 2011 بالانتفاضة أو بالثورة بقدر ما تكمن في تحديد هوية ما يجري من خلال التجليات والتمظهرات وليس من خلال الفرضيات والأمنيات، وعليه فإن القراءات والمقدمات ستتبدل، وبالتالي النتائج. خلال تناول الكاتب للدور الكردي في الأزمة السورية التي بدأت في 2011 والقائمة إلى الآن، لا يجد الكاتب غضاضة أو خطأ في مشاركة الكُرد في سوريا في إسقاط النظام المركزي. وهنا أسأل الكاتب واتساءل: هل إسقاط الأنظمة المركزية في سوريا مهمة كردية؟ أو هل تجب مشاركة الكُرد في هذه المهمة في حال تبنيها من قبل المكون العربي السني؟ أعتقد أن الجواب يميل إلى النفي لعديد الأسباب التي تتعلق بخصوصية القضية الكردية في سوريا، كما بالقدرات السياسية والمادية، هذا ما عدا أن المعارضات السورية السنية لا تقدم مشروعا أفضل من النظام من حيث طبيعة وشكل النظام القادم الذي هو في الجوهر نسخة من النظام العلوي الراهن لكن هذه المرة على الطريقة السنية. في بداية الفصل الثالث (الانفجار السوري)، يقتبس الكاتب إيمانا منه من المفكر السوري جورج طرابيشي ما يلي “فحزب البعث أسس نظاما سياسيا أدى بالنتيجة إلى ابتلاع الدولة من قبل السلطة”. وهو بذلك يومئ إلى أن الدولة بالمعنى الحديث للمصطلح كانت موجودة على الأرض في سوريا إلا أن انقلاب البعث في 1963 قد أطاح بالدولة وطمرها. لكن عديد المصادر والمراجع التي تتناول التاريخ السياسي لسوريا ومن ضمنها الكتاب المعنون أعلاه تبرهن على نحو لا مراء فيه بعدم وجود للدولة بالمعنى الاصلاحي والتطبيقي المعاصر منذ تأسيس سوريا وفق الإرادات الأجنبية. بمعنى آخر، لم تشهد سوريا المصطنعة الهجينة ولادة ما تسمى بالدولة، وكان هناك على الدوام ما يمكن تسميته بالسلطة الدولة، أي السلطة التي تنوب عن الدولة وتجسدها فقط في موضوعة القوة أي القهر الجسدي والنفسي. وإذا افترضنا العكس، كما يؤكد ذلك جورج طرابيشي ومعه الكاتب، عندها يكون السؤال: لماذا حدث كل ما حدث في سوريا من انقلابات وبقي الحكم ضمن العسكر وبقيت أزمة الهوية الوطنية في أشدها وغاب التجانس الوطني والمجتمعي إلى أن حدث زلزال 2011.
بالرغم من هذه الملاحظات وغيرها والتي قد تخطئ أو تصيب، يبقى الكتاب بحثا علميا استوفى معظم الشروط الأكاديمية من تحديد موضوع وهدف وخطة العمل وصولا إلى الخاتمة ورؤية الكاتب فيما يتعلق بالحل أو مشاريع الحلول عندما يدعو المؤلف الى إعادة قراءة “الانفجار السوري” من كافة الزوايا أملا في الوصول إلى نتائج منطقية قد تؤدي إلى التقليل من الخسائر ووضع نهاية للانفجار غير القابل للانتهاء.
ولذلك يمكن إدراج الكتاب ضمن الأبحاث العلمية قليلة العدد التي تناولت الأزمة السورية والقضية الكردية في سوريا في سياقهما التاريخي والسياسي والإداري الغزير، وبالتالي لا يمكن غض الطرف عنه في مسعى فهم واستيعاب الانسداد السوري المزمن.